سفر .. ومسافر .. ورحلة سفر .. الأداة أقدام .. وإقدام .. والنتيجة هدف يُسعى إليه.. وشاعرنا أحمد صالح الصالح فَرَدَ جناحيه الشاعرين ليحلق بهما في فضاءات الشعر طارحاً الكثير من الأسئلة تارة، والأجوبة أخرى وفق ما يستبين له من مظاهر وظواهر حياتية، محاولاً رسم الكثير من الصور والأخيلة التي أمكن له التقاطها من خلال عدسته وهو يطوف .. ويتأمّل .. ويبحث عن شيء ما زال عالقاً في ذهنه ككل شاعر يرى الحياة بحر غموض.. وبرّ صخب.. وواقع عناء.. ومعاناة لا تخلو من حلم جميل يسيل له لعاب القلم.. ومداد الكلمة.. يستحثه على الطرح.. في الترح.. وفي الفرح. في ديوانه «قصائد من زمن السفر» جاءت إحدى لوحاته موحية بخطواته: وخطراته: أنتِ. يا أحلى من الراحة من ماء المطر أنتِ يا أشهى من اللذة يا صفو العمر الخطاب تغطية مسحة حزن دفين في دواخله أفصح عنه ولكن من خلال عذوبة معجونة بالعذاب. إنه يُفصح أكثر: كم دعاني قدري. أن أنتهي فإذا أنتِ على دربي قدر.. وإذا كل هوى قبلكِ قد صار أثر.. ومَن فينا يقدر على مواجهة القدر.؟!.. لا أحد.. إنه إرادة إلهية الإيمان بها أحد ثوابت العقيدة السماوية.. في شعره طموح مشبع بالعزة والتحدي يأبى الانكسار، والانكفاء. هذا ما عبّر عنه في مقطوعته «حاذري». حاذري أن تقلبي عزتي.. فعزتي كالنبض ملء العروق إن وشوش الواشون في حبنا.. ورغم هذا الكبرياء في الحب فإنه لا يقوى على مواجهة إعصار الحب.. حب الحنين.. إنه الأنين بعينه! أنتِ أتعبتِ زورقي فتعالي أوغلي في غدي. وغلي ظنوني وابعثي دودة الحياة بيأسي واخطري في ملاعبي. هدهديني وفي ديوانه الثاني «عيناك يتحلّى فيهما الوطن» أسترجع شيئاً من أحلامه الضائعة.. تغنى وهو يعزف على قيثارة حزنه وقد لوعه فراق من يهوى: لا تتركي ساعة بالعشق مثمرة تذوب في وحشة الليل الذي وهنا أغمضت عينيَّ في شوق لعلهما تسترجعان من الأحلام بعض سنا الغربة موحشة.. هكذا تذوق طعم مرارتها.. وهو يسائل رفيقة حياته عن أمه التي تحتل منه مكانة ومكان الصدارة.. كان هذا يوم بعاد أثار في دواخله الشجون والهواجس: رفيقة العمر. أمي مَن يُخبرني عن حالها. كم إليها تُسرع الفكر كأنها في مصلاّها إذا ابتهلت لربِّها صيِّب بالخير ينهمر وهو الشاعر يتذوّق الشعر ويعشقه.. إنه الجسر الموصل لما يهواه.. إذ بدونه لا جَمال.. ولا آمال.. ولا لغة وصال: إذا كان للشعر مجد عظيم ففي الأعين النجل يأتي فصيحا إذا الشعر أيقظ صبا. ولوعا وبارك في الحسن جيدا مليحا وفتح قلباً على الحب بكرا ولامس بالعشق مضنى جريحا تغني به كل ثغر شهي ومدَّ على الكون أفقاً فسيحا أعطى للوجدان في شعره.. وأعطى للإنسان.. وللأوطان جانباً من شعره.. الحب في كلتا الحالتين لازمين متلازمين.. حب القلب عاطفة وجُود.. وحب الحرية يقظة وخلود: هكذا مشهد المقاومة وهي تواجه المحتل بصدور عارية.. وبشيء من الحجارة: المجد عانق خاشعاً وطناً أطفاله بارودهم حصب كنت على حجر ومنسأة هشوا بها الأنذال فانقلبوا هذا ما استطاعه شاعرنا.. وما عجز عنه واقعنا. وفي ديوانه الثالث «عندما يسقط العراف».. خطاب مليء بالتساؤلات المبهمة: حبيبنا.. مدينتي نقرأ في عينيك قصة الحروف البيض والسهر رائحة الإنسان عندما يعركه الجهاد عندما يزرع في الحياة قلبه.. ويطلع الصباح قبل مولد السحر لمرثياته مذاق له حلاوة العبارة.. ومرارة العَبرة. والعِبرة: يقول: مصلوب ذلك الإنسان يا حبيبتي أمَا لهذا الفارس المصلوب أن يمتطي الجواد؟! أن يصارع الخطوب؟ وكأنما ساق هو نفسه الإجابة على سؤاله: ترجل الفرسان من قبورهم فوق شاهد القبور تناثر الدود ومن إنسانه المصلوب.. ومن فرسانه الذين وُلدوا أمواتاًَ.. ووجدوا أمواتاً.. تأتي صورة أمه على مشهد خريفي أفزعه وأوجعه: حبيبتي.. في قلب أمي تولد المأساة والأشياء في أحداقها كأنها الأوراق في الخير إطلالة سريعة على شعر مسافر زادُه الخيال. والسحر والعطر والجمال.. أخذنا معه في رحلة سفر لذيذة وقد فرَدَ جناحيه محلقاً لاقطاً لنا بعض المشاهد والشواهد.. شاهدة له أو شاهدة عليه. مجرد مقتطفات موجزة من قطاف دواوينه الشعرية الثلاثة. ليس إلا كنموذج. «مسافر» جدير بالاحتفاء والوفاء من ثقافية الجزيرة الأسبوعية.. مع التحية.. وقد فَعَلتْ أفردت له ملحقاً يستحقه كرائد شعر.