حاويات شحن مزودة بنظام GPS    مهرجان الحمضيات التاسع يستقبل زوّاره لتسويق منتجاته في مطلع يناير بمحافظة الحريق    بلدية محافظة الاسياح تطرح فرصتين استثمارية في مجال الصناعية والتجارية    الأونروا : تضرر 88 % من المباني المدرسية في قطاع غزة    زلزال بقوة 5.6 درجة يضرب الفلبين    سديم "رأس الحصان" من سماء أبوظبي    ضبط 23194 مخالفًا لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    أمانة القصيم توقع عقد تشغيل وصيانة شبكات ومباشرة مواقع تجمعات السيول    «سوليوود» يُطلق استفتاءً لاختيار «الأفضل» في السينما محليًا وعربيًا خلال 2024    الصين تخفض الرسوم الجمركية على الإيثان والمعادن المعاد تدويرها    انخفاض سعر صرف الروبل أمام الدولار واليورو    المكسيك.. 8 قتلى و27 جريحاً إثر تصادم حافلة وشاحنة    الفرصة مهيأة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    بعد وصوله لأقرب نقطة للشمس.. ماذا حدث للمسبار «باركر» ؟    أدبي جازان يشارك بمعرض للتصوير والكتب على الشارع الثقافي    دبي.. تفكيك شبكة دولية خططت ل«غسل» 641 مليون درهم !    ابتسامة ووعيد «يطل».. من يفرح الليلة    رينارد وكاساس.. من يسعد كل الناس    «الجوير».. موهبة الأخضر تهدد «جلال»    الأردن تدين حرق قوات الاحتلال الإسرائيلي مستشفى كمال عدوان    رئيس الشورى اليمني: نثمن الدعم السعودي المستمر لليمن    مكي آل سالم يشعل ليل مكة بأمسية أدبية استثنائية    جازان تتوج بطلات المملكة في اختراق الضاحية ضمن فعاليات الشتاء    الرويلي يرأس اجتماع اللجنة العسكرية السعودية التركية المشتركة    مدرب ليفربول لا يهتم بالتوقعات العالية لفريقه في الدوري الإنجليزي    رينارد: مباراة العراق حاسمة ومهمة للتقدم في البطولة    لخدمة أكثر من (28) مليون هوية رقمية.. منصة «أبشر» حلول رقمية تسابق الزمن    رئيس هيئة الأركان العامة يلتقي وزير دفاع تركيا    السعودية تقدم دعمًا اقتصاديًا جديدًا بقيمة 500 مليون دولار للجمهورية اليمنية    "جلوب سوكر" .. رونالدو يحصد جائزة "الهداف التاريخي"    القبض على أطراف مشاجرة جماعية في تبوك    مدرب قطر يفسر توديع كأس الخليج    ضبط 3 مواطنين في نجران لترويجهم (53) كجم "حشيش"    وزير «الشؤون الإسلامية»: المملكة تواصل نشر قيم الإسلام السمحة    خطيب الحرم: التعصب مرض كريه يزدري المخالف    مآل قيمة معارف الإخباريين والقُصّاص    الصندوق السعودي للتنمية يموّل مستشفى الملك سلمان التخصصي في زامبيا    مهرجان الرياض للمسرح يبدع ويختتم دورته الثانية ويعلن أسماء الفائزين    عبقرية النص.. «المولد» أنموذجاً    مطاعن جدع يقرأ صورة البدر الشعرية بأحدث الألوان    أميّة الذكاء الاصطناعي.. تحدٍّ صامت يهدد مجتمعاتنا    99.77 % مستوى الثقة في الخدمات الأمنية بوزارة الداخلية    نائب أمير مكة يفتتح ملتقى مآثر الشيخ بن حميد    «كليتك».. كيف تحميها؟    3 أطعمة تسبب التسمم عند حفظها في الثلاجة    فِي مَعْنى السُّؤَالِ    دراسة تتوصل إلى سبب المشي أثناء النوم    ثروة حيوانية    تحذير من أدوية إنقاص الوزن    ضرورة إصدار تصاريح لوسيطات الزواج    رفاهية الاختيار    اختتام دورات جمعية الإعاقة السمعية في جازان لهذا العام بالمكياج    وزير الدفاع وقائد الجيش اللبناني يستعرضان «الثنائية» في المجال العسكري    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الاجتماع الاستثنائي ال (46) للمجلس الوزاري لمجلس التعاون    حلاوةُ ولاةِ الأمر    بلادنا تودع ابنها البار الشيخ عبدالله العلي النعيم    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحسبة صمام أمان المجتمع ولا ينال منها إلا ضنينٌ في دينه أو مدخول في فكره
وزير العدل ورئيس المجلس الأعلى للقضاء لمنسوبي الهيئة في محاضرة (الضمانات والمضامين):
نشر في الجزيرة يوم 02 - 04 - 2012

في إطار البرنامج التوجيهي الأول لأعضاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الميدانيين بمنطقة الرياض والذي عقد الأسبوع الفائت على مدى ثلاثة أيام، وافتتحه معالي رئيس الهيئة الشيخ الدكتور عبد اللطيف بن عبد العزيز آل الشيخ حيث ابتدأ البرنامج بحوار مفتوح مع سماحة مفتي عام المملكة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ، تلاه مشاركة عدد من المشايخ من بينهم أعضاء في هيئة كبار العلماء، ألقى خلالها معالي وزير العدل ورئيس المجلس الأعلى للقضاء وعضو هيئة كبار العلماء الشيخ الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى محاضرة بعنوان: «الحسبة الضمانات والمضامين» ونظراً لما حملته هذه المحاضرة من مضامين هامة ورؤى مستقبلية قويمة فإنه يسعدنا في (الجزيرة) نشر نص هذه المحاضرة وما تلاها من مداخلات..
حيث تحدّث د. العيسى في مستهل محاضرته عن فضل العمل الحسبوي، موضحاً أن الله تعالى قرن خيرية هذه الأمة وأفضيلتها على الأمم بما اتصفت به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)، ومفهوم الصفة المخالف ينفي هذه الخيرية عند انتفاء هذه الوصفية، ولذلك جاء الوصف في سياق المضارع ليحُثَّ على الاستمرار والديمومة حتى لا ينقطعَ، ومتى كان الانقطاع صار الانفصال لكنه محصور فيمن باء بإثمه غير متعدٍّ بقية الأمة التي رعت هذا الوصف، ونقرب هذا بالفئة من الجماعة أو القبيلة متى كانت مشهورة بصفة معينة واستمرت عليها فإنه لا يسلبها وصفها المعين انقطاع ذلك في أي فترة من فتراتها سواء كان انقطاعاً كلياً للعموم، أو جزئياً على أفراد منها، فيُحرم من خيرية الوصف من حَرَم نفسه ذلك ولا يتعداه لمن سواه، وبمعنى آخر نقول: إن وصف الخيرية للأمة بأمرها بالمعروف والنهي عن المنكر لا تدخل فيه الفئة أو الجماعة المحرومة منه لتنكبها جادة الأمة، فلا يمكن أن تحظى بوصف الخيرية وهي لم تعمل بشرطه، ولا أن تحرم الأمة هذا الوصف بفعل الفئة المتنكبة.
لكننا نقول إن أصل هذا الوصف موجود في الأمة مهما طرأ عليها من عوامل المد والجزر، وهو المُعَبَّرُ عنه بالوصف الإجمالي، فضلاً عن أن الأفضلية متى كانت لفئة نالت بها هذا الفضل الوصفي على غيرها من الأمم؛ فإن الوصف يبقى في الأمة تعظيماً لهذا الدور المحسوب للأمة ولو كان جزئياً أو مرحلياً، نقول هذا أخذاً في اعتبارنا - على سبيل الفرض والتسليم - كافة الإيرادات.
وقال معاليه: يكفي رجالَ الحسبة أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم هو إمام المحتسبين، (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ).
ووصف رجال الهيئة في معرض التنويه بدورهم في المجتمع وأثرهم فيه بقوله: «إنهم صمام أمان المجتمع»، «ورعاة الخيرية»، «وحماة الفضيلة»، «وحراس السفينة»، وقال هم: «جبين الأمة المضيء ووجهها المشرق في باب تعاهد القيم والأخلاق والفضائل»، «وهم كذلك الأجسام المضادة في جسد الأمة التي تقضي بمشيئة الله على أي عنصر غريب يريد اختراق الجسد بالأدواء والأوباء» مضيفاً: «ويكفي أن شعار المحتسبين الدعوة لحياض الشريعة وقيمها الرفيعة».
تداخل بعض الاختصاصات
وأشار وزير العدل إلى إيراد يثيره البعض يتعلق بسعة مفهوم: «الحسبة»؛ طرداً لمصطلحها العام، وهو ما نجده في مثاني كتب الولايات الإسلامية، فالنبي صلى الله عليه وسلم احتسب بقوله: «ما هذا يا صاحب الطعام.. من غش فليس منا»، وهذا يختص به الغش التجاري، في صور عديدة من صور الاحتساب تختص بها جهات أخرى غير جهاز الهيئة.
وقال: غالب عمل الجهات الرقابية هو عمل حسبوي، بل عمل القضاء عمل حسبة، فمن يغيث الملهوف وينصر المظلوم ويردع الظالم وينصف منه، هذا في الحقيقة رأس سنام الاحتساب، لكن هل يعني هذا أننا نخطئ في اختزال هذا المعنى الشرعي في هذا الجهاز؟ لا أبداً، وذلك لكون عمل الهيئة يمثل الغالب الأعم لمعنى الاحتساب في مفهوم الأمة قديماً وحديثاً، وينصرف الذهن إليه عند إطلاق الاسم أو الوصف الاحتسابي، والحكم إنما يكون للغلبة والشيوع، ولا يؤثر على هذا الحكم الإجمالي بعضُ المفردات والصور، ومن هنا جاءت تسمية جهاز الهيئة وجاء اختصاصها، على أن ثمة أمراً لا بد من الإشارة إليه وهو أن سياق الآية الكريمة المنوه عنه جاء في معرض الوصف لا الاسم، فقد يُورد مورد بقوله: كيف يُنحت من الوصف اسمٌ؟.
والجواب على هذا: أن الوصف إذا كان في متعلَّق التكاليف الشرعية ونُحِتَ منه اسمٌ دلَّ في العموم على الحفاوة بالوصف والاهتمام بأمره وتعظيم شأنه حيث رُكِّبَ منه اسمٌ، وهو ما هدى الله إليه دولتنا الرشيدة في سياق حاجتها للتراتيب الإدارية في منظومتها العصرية التي تتطلب ضبط الأمور وإحكامها بحُكْم تغير الأحوال والأزمنة والعوائد بل والنيات، الأمر الذي تطلب معه إيجاد أجهزة شرعية مختصة بشؤونها كل فيما يخصه، وترتيباً على ما سبق أخذت الإدارة الحديثة للدولة من هذا الوصف الشرعي {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} اسماً صار علماً على هذا الجهاز المبارك، وصار في ثاني الحال علامة فارقة في جبين الدولة، يُشعر بقيمةٍ عُليا من قيم هويتها، مترجماً بوضوح خصوصيتها وتميزها، في خضم ضعف بل وغياب كثير من الأوصاف والأسماء والمصطلحات ذات الدلالة على الهوية الإسلامية في عالمنا الإسلامي المعاصر.
أصوات ضد الهيئة
وأشار الوزير إلى الكتابات والدعوات العاتبة على جهاز الهيئة، فقال: هي لا تخلو إما أن تكون ضَخَّمت من عمل فردي، أو مسكونة بأفكار دخيلة، أو تصورات خاطئة، أو لشهوة أو شبهة ظاهرة أو خفية يدركها المفتون بها أو يعيش غمرة عازلة تخادعه فيها نفسه ويخاتله شيطانه، فضلاً عن كتابات تفد من الخارج يتم الإيهام بأنها من الداخل، والمستهدف في هذا كله قيم المجتمع المسلم وفضائله وسلوكه، أيا كانت النيات والأهداف، والناس إنما يؤخذون بالظاهر، والسرائرُ إلى الله تعالى.
وكلنا نعلم علم اليقين أن الهيئة ليست سلطة مطلقة، وعصا مسلطة على الناس تصادر حرياتهم وحقوقهم المشروعة، بارتجالية وعشوائية، كما يُرْجف البعض، وينسج ويفتري، بل هي سلطة شرعية محكومة بتراتيب ولاية الأمر في تنظيم شؤون الدولة مشمولة بصلاحيات مسماة في النظام، والأصل في عملها الحظر والمنع إلا بنص يكسب عمل رجل الهيئة الشرعية والنظامية.
ولذلك لا نضيق ذرعاً عندما يتم سؤالنا عن مشروعية تصرف رجل الهيئة، وإنما نضيق عندما يقال يفترض ألا تتدخل الهيئة في كذا - في أمر هو من شؤونها -.
والسياق الصحيح أن يقال: هل من صلاحية الهيئة شرعاً ونظاماً مباشرة عملها محل الإيراد والمأخذ أو لا؟، في الغالب الأعم تجده من صلاحيتها، وإذا لم يكن وهو في حدود ضيقة فهو ما تعبر الهيئة فيه بكل حياد وشجاعة وإنصاف من نفسها أن ثمة خطأ حصل في الواقعة محل الاعتراض سواء كان الخطأ مرفقياً أو شخصياً، وإذا كان الخطأ مرفقياً فللمتظلم من عملها رفع الدعوى على الهيئة أمام القضاء الإداري؛ لأن الهيئة جهاز تنفيذي مشمول برقابة القضاء لقراراته وتصرفاته، وقد نظرنا في القضاء الإداري عدداً من القضايا ضد الهيئة، وللحق فإن الهيئة تحظر بروح منفتحة تنشد الحق لها أو منها، وهذا المنطق هو ما جعل منظري القانون الإداري يقولون إن الإدارة خصم شريف، ونحن نقول إذا كان هذا القول صحيحاً ومسلماً به في عموم الإدارة فكيف إذا كانت الإدارة مؤسسة شرعية وبحجم هذا الجهاز الذي ينشد الإصلاح والخير.
ومتى بلغ التجاوز إساءة استعمال السلطة فيعالج عن طريق جهاز الهيئة نفسه، وقد يصل للقضاء التأديبي وفق ترتيبات معينة، وينشأ عن ثبوت الحقِّ العام حق رفع الدعوى بالحقّ الخاص، لكن إذا لم يثبت الحق العام فلا حق خاصاً في هذا؛ لسلامة الإجراء.
وهذه أمور يجهلها كثير من الناس، ومنهم مع الأسف كتاب أعمدة ومنظرون وتجدهم في حلقات نقاش اجتماعية وحوارات عامة، وينشأ عن الجهل بها وغيرها لبس وخلط كثير، وليته يتوقف عندهم بل يحصل تشويش على الناس، واضطراب مفاهيم، كما حصل في السابق حول موضوع اختصاص اللجنة الإعلامية بالنظر في القضايا الناشئة عن مخالفة نظام المطبوعات والنشر وما تلاه من أوامر مؤكدة ومنشئة لبعض الاختصاصات ذات الصلة، وذلك أن هذا اللبس يزول إذا عُلم أن ما يصدر من هذه اللجنة (قبل التعديلات الأخيرة) هو قرار إداري مرده القضاء؛ فهو خاضع لرقابة القضاء الشرعي، إذن الكلمة الفصل في النهاية للقضاء عند الاعتراض على قرار اللجنة، فأنت في نهاية المطاف لم تُحجب عن القضاء، وإذا انتهى القضاء إلى سلامة قرارها ورفض طعنك عليه، فمن حكم عليك حقيقة هو القضاء الشرعي، لكن كل هذا غائب عن المفاهيم، وقد قلنا بأن نظر هذه اللجنة بداية هو في حقيقته في معنى التظلم الوجوبي وهو متعارف عليه في المبادئ القضائية، وقد استفاد منه القضاء كثيراً حيث خفف بنسب عالية جداً من تدفق القضايا على القضاء، وذلك أن غالب القضايا تنتهي بالتسوية والتراضي وأحياناً القناعة بالقرار.
أما التعديلات الأخيرة على نظام المطبوعات والنشر، فقد حسمت الموضوع من بدايته حيث اشترطت في رئاسة درجتيها توافر خبرة في الأعمال القضائية بمدد وصلت في لجنة الاستئناف إلى خمس وعشرين سنة، مع نص حاسم يقضي بالكف عن النظر في أي قضية تتطلب نظراً قضائياً أمام المحاكم، والرفع عن ذلك وفق الإجراء النظامي المرتب.
الحُرِّيّة الإعلاميَّة
وفي إطار الحديث عن تبرير الأطروحات ضدَّ جهاز الهيئة من منطق الحُرية الإعلامية قال الوزير: هذا الكلام يصح إذا كان الطرح موضوعياً وله رصيد من الحقيقة، فشفافية النقد هي سمة الإعلام المعاصر وجميعنا يؤيد بل ويؤكد على أهمية ذلك (وهذا يختلف تماماً عن مفهوم النصيحة)، فالإعلام من زاوية أخرى يمثل جانباً من جوانب الرقابة وهذا الجانب يمثل فصلاً مهماً في اختصاصاته، لكن إذا تم طرح أي موضوع وكان خالياً من الأدلة المادية بل في سياق مرتجل فإن للمستهدَف سواء كان فرداً أو مؤسسة عامة أو خاصة الحق في محاسبة المتطاول؛ لأنه في مُحَصِّلته ضرب من ضروب الافتراء، والكلمة أمانة ومسؤولية، من مسؤوليتها ألا تقول إلا حقاً، وأن تحفظ لسانك وقلمك عن أي أمر لا تملك دليله القاطع، حتى لا تسيء لأجهزة الدولة بعامة والأجهزة الشرعية بخاصة، فضلاً عن الإساءة للأفراد، لكنَّ البعض لا يريد هذا لأنه سيحد من انتشاره الإعلامي ومن إثارة مؤسسته الإعلامية فبعض المؤسسات الإعلامية التي تفتقد الحضور والقوة والتأثير تعوض ذلك بالإثارة والتشويش، وكثير من الناس يتلقفون هذه الأمور، ولذا جاء القرار الحكيم لخادم الحرمين الشريفين بتعديل نظام المطبوعات والنشر بترتيب جديد موفق ومسدد تضمن إيقاع غرامة تصل إلى نصف مليون ريال، وتضاعف الغرامة إذا تكررت المخالفة.
كما تضمن إيقاف المخالف عن الكتابة في الصحف والمطبوعات، أو عن المشاركة الإعلامية عبر القنوات الفضائية، أو عنهما جميعاً.
وشمل أيضاً حجب محل المخالفة مؤقتاً أو نهائياً ونشر اعتذار من المخالف في المطبوعة.
ومن أهم ما جاء في هذا التعديل الكريم أنه إذا كانت المخالفة تمثل إساءة إلى الدين الإسلامي، أو المساس بمصالح الدولة العليا أو بعقوبات يختص بنظرها القضاء، فعلى لجنة النظر في المخالفات الإعلامية إحالتها إلى الوزير لرفعها إلى الملك للنظر في اتخاذ الإجراءات النظامية لإقامة الدعوى أمام المحكمة المختصة، أو اتخاذ ما يراهُ محققاً للمصلحة العامة».
وأكَّد التعديلُ الكريمُ على وجوب التزام كلِّ مسؤول في المطبوعة بالنقد الموضوعي والبناء الهادفِ إلى المصلحة العامة، والمستند إلى وقائع وشواهد صحيحة.
وقال الوزير: أنا على يقين أن بعض المطبوعات التي تقوم على الإثارة والتشويش وإلهاب الرأي العام بالأراجيف ستوقف نشاطها؛ لأن هذه صنعتها، وهذه بضاعتها، ولن يكون لها رواج بعد هذا الحزم الشرعي والنظامي.
وقد قلنا مراراً بأن هناك فرقاً بين الحرية والفوضى، والحرية والإساءة للنظام العام للدولة، وكذلك بين الحرية والتأثير على الوجدان العام وإثارة مشاعره، وضرب معاليه بدولة غربية ترفع - حسب ما تذكر - راية الحقوق والحريات قد منعت قبل أيام دخول شخصيات دعوية لسبب واحد وهو عدم احترام مبادئ الدولة، وعدم احترام المبادئ يعني الفكر والقيم وليس الجانب السلوكي المنصب على الإخلال بالنظام العام، فهذا شيء وذاك شيء، إذن أين الحرية! فليقل هذا الداعية في بلد الحرية ما شاء ما دام لن يخل بالنظام العام للدولة وفق شعارات الحرية لهذه الدولة، نعم هناك خلط وتداخل والتباس كثير.
ولا يعني كلامنا هذا إجازة الأطروحات الفكرية المخالفة لمبادئ الدولة وهو ما عبرنا عنه قبل قليل بأنه الإساءة للنظام العام للدولة والتأثير على وجداننا الوطني وإثارة مشاعره، لكن نقول هذه الحرية حتى في البلاد التي وصلت الحريات فيها للإباحيات تقف بحزم عندما تصل الأمور لهذه المستويات التي يتشدق البعض بأنها تمثل الحريات ولا يجوز منعها.
لا عصمة لأحد
وحول أخطاء رجال الهيئة قال الوزير: لا عصمة لأحد من البشر ما عدا أنبياء الله ورسله فيما يبلغونه عن ربهم جل وعلا وما سوى ذلك فقد قال الله تعالى عن خير خلقه وخير من طلعت عليه الشمس صلى الله عليه وسلم: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ)، وقال: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
والمولى جل وعلا لم ينزل على الأرض ملائكة بل خلق بشراً، ورجال الهيئة من جملة البشر، يجري عليهم ما يجري على سائر البشر، لكن يجب عدم تعميم الخطأ ونسبته للجهاز في حين أنه يمثل خطأ فردياً تخطئ في مثله وأشد كافة الأجهزة التنفيذية، ولذلك أوجدت الدولة الأجهزة الرقابية ووجد القضاء لمعالجة هذه الأخطاء، غير أن المتلقي العام إثر التضخيم الإعلامي يتأثر سلباً، وبالتالي تتأثر صورته الذهنية عن الجهاز، وهنا تكمن الخطورة، وهناك من يضرب على هذه الجراح ليعمقها ويعممها، والله حسيب كل مفترٍ وظالم، وثقوا أن المغرضين لن يعدوا قدرهم فلا تضيقوا بهم نفساً، وما الأمر إلا كما قال الله تعالى {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى}، أي مجرد قول باللسان، لكن على جهاز الهيئة متابعتهم ومحاسبتهم وفق الإجراءات النظامية، وأي موضوع لا يتم الرد عليه هو في المفاهيم الإعلامية صحيح، وقد أكد أمر سام أخير عُمِّم على كافة أجهزة الدولة على وجوب الرد على ما يُكتب سلباً عن أي جهاز حكومي عند الاقتضاء، أما إذا كان ما كُتب صحيحاً فالرد مكابرة ومصادمة للحقائق، بل الواجب الاعتراف بالخطأ ومعالجته، وكلنا خطاؤون فنحن من قبل ومن بعد بشر.
اعتزاز الدولة بالحسبة ورجالها
وأوضح معالي وزير العدل أن الدولة تعتز بهذا الجهاز العظيم وتُثمن عمل ودور رجاله ولا أدل على ذلك كالذي جاء في مستهل الأمر الملكي الداعم لجهاز الهيئة قبل عام، حيث ورد فيه النص على ترسخ الإيمان بأهمية شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتأكيد على أثرها العظيم في سلوك المجتمع المسلم، والحرص على دعم هذه الفريضة الإسلامية التي أولتها المملكة ما تستحق من العناية والرعاية، مؤكداً خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - في نص الأمر الكريم على اعتزاز الدولة برفع شعار هذه الشعيرة الإسلامية العظيمة، ودعم رجالها، ورعاية أعمالها.
وخاطب الوزير رجال الهيئة قائلاً: هذا منهج الدولة تجاه هذه الشعيرة وشعورها نحو رجالها، أما عاديات الشر فقد انقلبت على أعقابها ومحاولاتها - والتي نقطع بأن محاضنها خارجية - لها سنين طويلة على هذا المد المغرض وقد رد الله المناوئين بكيدهم وغيظهم لم يناولوا خيراً، ولم يزد دولتنا هذا كله إلا اعتزازاً بهذه الشعيرة وثقة برجالها ودعماً لهم يوماً بعد يوم.
تفويت الفرصة على الأعداء
وتابع الوزير قائلاً: سبق أن قلنا بأن الهيئة مستهدفة لكن لن تصاب بمثل ما تصاب من داخلها أو من قبل المتطاولين على صلاحياتها المتسلقين سورها، المنتزعين ولايتها، فأن تصاب من داخلها فهذا أكبر عطاء يُسدى للأعداء، فلا بد من الحذر والتوقي في أعمال رجال الهيئة بلزوم جادة الشرع والنظام، والبعد عن الارتجال والحرص كل الحرص على الرفق بالناس، وأخذهم بالحسنى، بل والتلطف معهم والرحمة بهم، والجاهل يؤخذ بيده ويرحم أكثر من غيره، ولن يواجهك عند مناجزته وإثارة حفيظته إلا بمزيد من الجهل والتطاول، وفي هذا أنت الخاسر، لكن لا يعني هذا تركه إذا خرج عن الإطار المسموح به في التعامل معه.
أما الفئة الثانية فيمثلها الاحتساب العشوائي الخارج عن التراتيب الولائية للدولة، فهو بفعله لا يريد التقيد بنظام الدولة، ولا يحترم إرادتها، ولا ثقتها برجال الحسبة المخولين بالعمل الحسبوي، ولا تطمئن نفسه بعمل إخوانه في جهاز الحسبة فهو إما منتقد لهم، أو غير واثق بهم، أو متعقب عليهم، لا شك أن أياً من هذه الأمور لازم له، مهما أحسنا الظن به.
ونقول لهؤلاء هل ترون الحسبة واجباً كفائياً أو عينياً، على التقدير الثاني يتعين عليهم (وفق التأدب مع أهل العلم والتقيد بأصول وقواعد الخلاف العلمي، والخضوع لترتيبات الدولة) يتعين عليهم احترام الرأي الآخر والذي أخذ به كبار علماء المملكة حيث نوَّهوا في برقياتهم لخادم الحرمين الشريفين بقرار قصره الفتوى على أعضاء هيئة كبار العلماء، وقصر الحسبة على جهازها.
وإذا كان الواحد منهم قد رأى منكراً ويريد إبراء ذمته، فنقول ذمتك تبرأ برفع الأمر إلى جهاز الحسبة، فإن لم يفعل شيئاً على أسوأ تقدير، فارفع لولي الأمر، وذمتك بريئة بريئة بريئة، وليس فوق هذا - فيما يظهر قضاء لا ديانة - إلا التكلف أو التنطع والغلو، بل وإرباك عمل الدولة المنظم في نظم الدولة الحديثة، مع إحسان الظن بالجميع، وعندما نقول قضاء نتكلم عن التوصيف القضائي وترتيبه الثبوتي في الجزاء فهو يأخذ بالظاهر المعبر عنه بالقضاء ولا دخل له بالسرائر المعبر عنه بالديانة وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنكم تختصمون إلي، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع منكم، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة».
وأشار الوزير العيسى إلى أن الخلط بين النصيحة والاحتساب من الأغلوطات لنكث التراتيب الولائية، والنصيحة مشروعة لكل أحد؛ لكن يجب ألا تنتحل ولاية الحسبة والعبرة بالنتيجة والمآل، فقد يُسمى الأمر نصيحة وهو عمل حسبوي ولائي.
وتابع معاليه قائلاً: ولم أرَ إسقاطاً على الهيئة وتعقباً عليها من مثل الاحتساب العشوائي، حيث تدخل المكان العام وتجد ركناً للهيئة ورجال الهيئة في كل مكان قائمين فيه بواجبهم الشرعي والنظامي والكمال لله وحده، ثم تجد من يدخل من المحتسبين - خارج تراتيب ولاية الحسبة - محدثاً ضجيجاً وجلبة، وسؤالنا له: ما تقول في جهاز الهيئة ورجاله؟ وما تقول في أهمية تنظيمه وترتيبه وفق متطلبات السياسة الشرعية والمصالح المرسلة بل والمصالح المعتبرة لا مجرد المرسلة؟، للأسف تجد البعض اعتاد هذا الاحتساب ويجد في نفسه صعوبة في تركه ويصحب ذلك عادة وساوس تتعلق بالتأثم والحرج، وإنما الإثم والحرج في فعله، وإساءة الظن بإخوانه رجال الهيئة - فيما يظهر من فعله - والتعقب عليهم ومواجهة نظام الدولة ورفض تطبيقه.
وثمة شبهات يوردها بعضهم حملاً على حالات في عصور سابقة لا يمكن القياس عليها مطلقاً، مع الفارق بين معتقد العلماء المخالفين في محل القياس وعلمائنا، وبتأمل هذه القياسات تجدها في طليعة القياس الفاسد، ومن الناس من تجده حاملا للفقه غير فقيه، صَنْعَتُهُ في مجرد سرد المرويات والأقوال والتعليقات والشروح، ولا يدري ما في الغرائر، أبعد ما يكون عن فهم المقاصد ودرك اختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والعوائد على أن هذه القاعدة تؤخذ بضوابطها الشرعية لا بالتشهي والأهواء وإلا ضاع الدين، كما أضاعه البعض بالتلفيق المشين بين المذاهب والأقوال وتتبعهم الرخص بما نهايته الانسلاخ من الدين.
وتابع الوزير: الاحتساب العشوائي مسيء لعمل الحسبة ومتعقب عليه، بل وناعٍ عليه، وقال: من المتناقضات أن هذا التعقب والاستدراك من أشخاص يثنون على الحسبة ورجالها وينادون بالمحافظة على شعيرتها في إطار عملها المؤسسي، ويرون أن هذا الجهاز جهاز شرعي مهم ولا يعاديه ويسيء إليه إلا أصحاب الأفكار الدخيلة والمغرضة، ولو نادى أحد لا سمح الله بحله أو حتى دمجه مع غيره لبلغت القلوب الحناجر، ونحن نقول إننا معكم في هذا بل ونزيد بأنه لا يقدح في الهيئة إلا ضنين في دينه، أو مدخول في فكره، لكن هل كنتم عوناً للهيئة في هذا، أو جئتم - دون علم - في سياق واحد مع المسيئين إليها استدراكاً عليها وإحراجاً لها وهي تبذل ما في وسعها أياً كان مرادكم فنحن دوماً نحسن الظن بكم، فإن قصَّرت الهيئة فهناك آليات شرعية ونظامية للتعامل مع التقصير لا بالفوضى والارتجالية ونسف التراتيب الولائية والإجراءات النظامية، والمكابرة بالادعاء بأنه إذا لم يُسمح بهذا الاحتساب العشوائي الخارج عن نطاق جهازه الرسمي فإن الدولة تمنع الاحتساب، كيف تمنعه وقد أنشأت له جهازاً يمول من ميزانية الدولة بمئات الملايين وفيه آلاف الموظفين، ويحظى بالدعم والتأييد منذ قامت الدولة حتى الآن، ولا تكاد تجد مكاناً إلا وللهيئة فيه حضور فاعل، ونصيحتي لكل محتسب من هذا النوع أن يتقي الله في هذا الجهاز ولا يسيء إليه وألا يكون عوناً للمتربصين به، من حيث لا يعلم.
وتابع معاليه قائلاً: تجد أحدهم يصغي لبعض الأنظمة ويترك أخرى وكأنه مفلت اليد مطلق الإرادة تجاه اختيار تراتيب الدولة، وهو على أراضيها حاملاً لجنسيتها، فهو يقول هذا رأيي ورأي من يوافقني عليه، ويجب أن أحمل الناس عليه وأن يُفسح لي فيه، ولو خالفني فيه كبار العلماء ممن أثق بهم، ولو كانت أنظمة الدولة بخلافه، حتى لو كان الذي حمله على القول به شأن قد كُفي مؤونته وعلم الله صدقه فيه وكتب أجره - إن شاء الله - لعلمه بحرصه عليه وأنه يقوم به لو لم يُحل بينه بترتيبات ولائية، وحتى لو كان فتح هذا الأمر (في ظل ظروف العصر دون ضبط نظامي) يخل بالمصالح ويربك العمل، ويحدث فتناً، ويعرض عشوائية الاحتساب للإساءة لنفسها قبل أن تسيء لغيرها، وحتى لو كانت تسيء أكثر مما تصلح بسبب أوضار الارتجال والخروج عن ضبطه بنظام تلح به ظروف العصر وتحولاته.
لقد بدأت الدولة الإسلامية بتدوين الدواوين من الخلافة الراشدة وهي نظم عصرية وجب على الجميع احترامها ولزوم نظامها، وليس لأحد الخروج عن رسمها؛ لأن ظروف العصر وتطوراته تطلبت ذلك، ولو ساغ الخروج لامتد هذا في سياقنا المشار إليه لكل ضروب الاحتساب، وفي مشمولها كافة الأجهزة الرقابية، فللمحتسبين خارج نطاق الترتيب الولائي للحسبة مباشرة عمل هيئة الرقابة والتحقيق، وديوان المراقبة العامة، وديوان المظالم، وهيئة مكافحة الفساد، وكذلك القيام بمهام مكافحة الغش التجاري ومراقبة الأسواق، وفي كتب الأحكام السلطانية تدخل هذه الولايات في منظومة الاحتساب، وهذا يلزم الجميع، لكن المشاهد هو مزاحمة جهاز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومنازعته اختصاصه في سياق يُكَيَّفُ على أنه اغتصاب للسلطة، ومِنْ حَزم القضاء الإداري وتنبُّهه لخطورة هذا الأمر أنه يُعْدِمُ القرار الإداري الناشئ عن اغتصاب السلطة ولا يُحَصِّنُهُ بالتقادم، كمن يباشر سلطة رجل الأمن ويقول لا بد أن أؤدي ما يجب عليَّ في هذا؛ إبراء للذمة؛ فأنا قادر أو لي ملاحظات لم تتم معالجتها من قبل رجال الأمن وهذا مرتع وخيم لا ينتهي، وللعلم فكل من الأجهزة السابقة يباشر أموراً شرعية خاصة القضاء، وأموراً اجتماعية لها علاقة بالجوانب الشرعية، وفيها شؤون أخلاقية تتعلق بالقيم والفضائل ومحاربة الفساد والرذائل، وفيها مجال واسع وكبير للاحتساب الفردي.
وعوداً على بدء: فنحن نقول كل ما ذكر يمثل اغتصابا للسلطة في تكييف القضاء مهما كانت نية صاحبه، ومهما أحسنا الظن به، لكنه يؤخذ بظاهر التصرف المكيف قضاء بأنه اغتصاب للسلطة، وإن حسنت النية فحُسْنُ النية لا أثر له على الصحة والبطلان في مثل هذا السياق، ولنا كلام سابق في تفسير القرآن حول هذا الموضوع وهو محمول على هذا الإيضاح.
وأنا أقول لكل محتسب من هؤلاء احمدوا الله تعالى فإنكم في بلد حَفِيَ وحَفِلَ بهذه الشعيرة ما لم تحفل بها دولة على هذه البسيطة، فسددوا وقاربوا وتبينوا، ووالله الذي لا إله غيره إننا لنحسب أننا لا نقل عنكم غيرة على الاحتساب وحرمات الدين ولا نزكي على الله أحداً ولا نزكي أنفسنا، هو أعلم بمن اتقى.
وقال معاليه: لا شك أن المنهج التربوي له أثر في السلوك فهذه الأمور لها صلة بالسلوك أكثر من غيره، ولها صلة أيضاً بتداخل المفاهيم والتباسها وزيادة منسوب التوجس والتخوف.
ويفوت البعض أنه قد يوجد مقتضٍ يحمل الهيئة على مباشرة تغيير المنكر بمعالجة هادئة وطويلة أحياناً، ومع سلطة الجهاز وقوته فإنه مضطر لذلك حيث تتطلبه الحكمة، وأحياناً يتطلب الأمر مراجعة سلطة أعلى، فهل ستقوم أنت بجهودك الفردية بما لم تقم به الهيئة بسلطتها ونفوذها ونفاذها؟؟ وما الأسلوب والقوة التي ستباشر به تغيير المنكر؟، لتعلم أن تسرعك وارتجالك هنا سيترتب عليه مفاسد أشد وأكبر من المنكر ذاته، والمنكر الذي تراه بعينك قد كُفيت تغييره سواء باللسان أو اليد، ولن تعدم الأجر في كراهيتك له بقلبك وهو تغيير له، على أنه قطعاً لن يبقى عالقاً في ظل وجود هذا الجهاز المبارك، وسياقنا هنا محمول على الواجب الكفائي المبين في قوله سبحانه: «ولتكن منكم أمة»، ف: «مِنْ» في الآية الكريمة للتبعيض بدليل قوله تعالى: (أمة)، هذا هو الصحيح؛ وعلامة التفريق بين من البيانية والتبعيضية، هو أن البيانية يسوغ التعبير عنها بقولنا (الذي) كما في قول الحق سبحانه: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} ومعناه الذي هو أوثان، وعلامة من التبعيضية، هو جواز أن يقوم مكانها (بعض) فقوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ}، معناه ليكن بعضكم أمة؛ أي فئة تقوم على أمر الله، وهذه لا يصلح البتة أن نجعلها بيانية فلا يصح أن نقول: ولتكن الذي أمة.
بعد هذا التفت الوزير إلى رجال الهيئة هامساً بقوله: ثم إني أهمس هنا في أذن كل محتسب خارج نطاق جهاز الحسبة قائلاً: إذا كان لديك حماسة في العمل فالتحق بجهاز الحسبة ومتى علمتْ الهيئة منك القوة والأمانة فسترحب بك.
وأضاف الوزير: الهيئة هي المسؤولة عن حماية اختصاصها الولائي من أي اعتداء عليه، ونحن في القضاء لو بسط أحدهم رداءه في السوق ليقضي بين الناس خارج رسوم الولاية لحاسبناه، فهذه ولايات سلطانية يجب احترام رسومها وتراتيبها، ومن خرج عنها وجب رده لجادة الصواب فإن امتثل وإلا أدب شرعاً، وهذه التصرفات - في تكييف البعض - تعد كبيرة وخطيرة تدخل في توصيف الأعمال الجنائية التي تُرفع للقضاء مباشرة ولو كانت عبر وسيلة إعلامية، وذلك أنه من الملائم - في تقدير البعض - أن تُكَيَّفَ قضاءً على أنها جناية لا مخالفة - وهذا إنما أسوقه بحثاً فقط -، ونظام المطبوعات والنشر بتعديلاته ينصب على المخالفات المتعلقة بمواد نظامه، وهذا الأمر - وفق هذه القراءة - لا علاقة له بهذا الشأن، بل هو تعدٍّ على رسوم الولاية السلطانية وهو جناية لا صلة بها بمخالفة مواد نظام المطبوعات والنشر، وفي إطاره تماماً من يفتي خارج تراتيب ولاية الأمر، ولم يُستثنَ من ذلك إلا ما نص عليه الأمر الملكي وهي الفتاوى الخاصة الفردية غير المعلنة في أمور العبادات، والمعاملات، والأحوال الشخصية، شريطة أن تكون بين المستفتي والمفتي، مع المنع البات من الدخول في شواذ الآراء، ومفردات أهل العلم المرجوحة، وأقوالهم المهجورة.
فرض الآراء.. والاحتياط في حق الدولة والأفراد
وحول الآراء الفقهية قال الوزير: إن أهل العلم لم يزالوا قديماً وحديثاً يختلفون فيما بينهم والاختلاف سائغ، ما دام في إطاره المسموح به، وهذا من سعة الشريعة وعوامل مرونتها ومن شواهد صلاحها وإصلاحها للزمان والمكان، ولولا هذه السعة والرحابة لما جاءتنا مدونات الإسلام في مجلدات عديدة وضخمة، خذ مثلاً: المغني لابن قدامة - طُبع مؤخراً مع فهارسه في خمسة عشر مجلداً - وخذ كذلك المبسوط للسرخسي وغيرها كثير، ولحملنا الناس على جزء أو مجلد واحد، وما وسواه قول باطل لا يسوغ القول به.
ونبه الوزير على موضوع يتعلق بالاحتياط قائلاً: يحصل لدى البعض خلط بين الاحتياط للدولة والاحتياط للآحاد وهم أفراد الناس، فمن الناس من يعيش عُمُرَهُ على الاحتياط والتوقي حتى يصبح نمطاً علمياً وعملياً له، ولمعايشته له يجد نفسه لا تقبل أي أمر آخر خارج هذا المألوف، الذي قد يكون هو الأصوب والأبرأ للذمة في حقه، وليته يشمل به أفراداً مثله، بل يريد من الدولة أن تسلك هذا الأمر إبراء للذمة في اعتقاده، وما علم أن عدداً من المسائل: من الاحتياط للدولة فيها ألا تأخذ باحتياطك فهي تسير بضعفائها وتتعامل مع منظومة دولية لها التزاماتها ومتطلباتها، فاحتياطك يقابله عمل بعكسه عند الدولة لكنه بالنسبة لها احتياط، وإذا أخذت أنت بالعزائم فليس بالضرورة أن يأخذ بها غيرك، ومتى كانت الرخصة الأرفق والأسلم كان الأخذ بها واجباً وهي بهذا الاعتبار عزيمة من وجه ورخصة من وجه آخر.
وتابع الوزير قائلاً: هناك فرق بين الآراء التي هي في دائرة الأخذ بها من عدمه، وهناك آراء وإن كانت في إطار هذه الدائرة من حيث الأصل، لكنها متروكة العمل من خلال حسم موضوعها بأمر سلطانيّ، لتصبح بذلك في نطاق مجريات عمل الدولة الإسلامية باختيارها لهذا الرأي الفقهي متى تعلق بالشأن العام، فعندئذ يجب احترام العمل ولا يجوز الخروج عنه، ولنضرب لذلك مثالاً: لو قال قائل: إن من الفقهاء من قال: يجوز لغير المسلم الأكل والشرب جهرة في نهار رمضان، فإننا نقول له إن الرأي الفقهي المانع شكل هنا نظام دولة فيجب احترامه، كما قلنا مثل ذلك لمن اعترض علينا في سياق مداخلة له على إحدى محاضراتنا في جولاتنا الخارجية قائلاً: كيف تطبقون الشريعة الإسلامية في قضائكم على غير المسلمين وهم لا يدينون بالإسلام ولا يؤمنون بأحكامه، فقلنا له إن هذه الأحكام بالنسبة لغير المسلمين تمثل دستوراً ونظام دولة ويجب أن يتعامل غير المسلم معها على هذا الأساس، وإلا لما جاز مثلاً لدولة تأخذ بالفلسفة الرومانية في دستورها وقانونها أن تطبقها عليَّ وأنا مسلم لا أدين بهذه الفلسفة، طبعاً هذا لا يمكن لأنه يمثل دستوراً وقانون دولة بغض النظر عن كونه رومانياً من عدمه، فمتى دخلتَ أراضي تلك الدولة فقد رضيتَ بحكم دستورها وقانونها وإن كنت لا تدين به، ومثل هذا تماماً النصوص الإسلامية التي شكلت دستوراً ونظام دولة، ولا نستثني في هذا إلا بعض الصور كما في بعض مسائل الأحوال الشخصية مثل الإرث فهذه للمسلمين وحدهم إلا من ارتضى تطبيقها عليه من غير المسلمين.
نقد الإجراءات القضائية
وفي سياق انتقادات الهيئة من قبل بعض وسائل الإعلام قال الوزير: لم نسلم في القضاء من ذلك، لكننا نحاسبُ كل مخالف معتدٍ، وقال: من العجب أن يأتي نقد لحكم ابتدائي، ومع التسليم بأن الحكم خاطئ لكنه غير نافذ أي ليس نهائياً، فكيف تنتقد حكماً محل الدراسة والمراجعة والآن محل الاستئناف مجدداً، ومن وراء ذلك كله هناك محكمة عليا، ولم توضع هذه الضمانات القضائية إلا لأن القضاة بشر وقد يخطئون، .
نصائح لرجال الهيئة
وفي عدة نصائح وجهها معاليه لرجال الحسبة قال: لا بد أن تشعروا وجدانياً وأنتم تتعاملون مع الناس على أنهم إخوة لكم فغالب من يواجهكم في الميدان هو من بني جلدتكم إخوان لكم، أبناء دينكم وبلدكم، وإذا كان بعضهم متعنتاً أو جاهلاً فيتعين أن تتعاطى معه برفق ورحمة، لكن في الإطار المسموح به فإن تجاوز وخرج عن الانضباط تم التعامل معه وفق النظام بما يحزم أمره ويفرض هيبة الدولة وأجهزتها وبخاصة جهازها الشرعي المتمثل في جهاز الحسبة.
وأكد الوزير على أن رجال الهيئة رجال ضبط، لا رجال تحقيق، ونبه على أهمية التفريق بين صلاحية جمع المعلومات والاستماع للأقوال والسؤال وهي مرحلة التحري والاستدلال التي هي من صلاحية رجل الضبط وبين التحقيق.
ونصح معاليه بأهمية الأخذ بالجانب الوقائي والتوعوي والتصدي للشبهات والحملات الفكرية المغرضة، وعلى التفاؤل بالخير فهناك من هو حري بأن يقال له: «أنت أهلك الناس» عندما يقول هلك الناس بقوله أو فعله، ولن تجدوا مجتمعاً معصوماً وعالماً ملائكياً، وكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، وأن تتعامل مع المنكر قبل وقوعه بالإجراءات الاحترازية والاستباقية ومن ذلك التوعية والتحذير خير ألف مرة من التعامل معه أثناء ملابسته أو بعدها.
كما نصح معاليه رجال الهيئة بالمزيد من توسيع المدارك من خلال التزود العلمي والمنهجي وبتعاهد الدورات التدريبية التي تزيد من التأهيل وتصقل المواهب وتحفز الطاقات والمكامن، وقال إن الإنسان كالآلة ما لم يتم تعاهدها وصيانتها بما يقويها ويصقلها فإنها تصدأ وتتآكل، وإذا كان الطب ينصحك بلزوم المشي لكونه نافعاً لصحتك فنحن نقول لك الزم تلك الأمور فهي نافعة لعملك ومنهجك وعلمك وثقافتك وفكرك.
كما دعا معاليه رجال الهيئة لتغليب حسن الظن وحمل الناس على أحسن المحامل مع عدم تفويت الاحتياط عند الاقتضاء والمظنة، وقال: أذكركم بأن شريعة الإسلام شريعة الرحمة والعفو والصفح ولا يعني هذا السماح لأي أحد بتوظيف هذه المعاني سلباً والإساءة للمفاهيم الإسلامية وخرق سفينة النجاة والتطاول على القيم والفضائل.
والمطلوب التسديد والمقاربة وأخذ الأمور من جميع الزوايا، وهنا يكون للحكمة موضع وللتعقل محل، فالحكيم الذي يدرك هذه الأمور ويوازن بينها بفقه الشريعة ومقاصدها وحسن التصرف بوضع الأمور في مواضعها بدراية وممارسة عملية يُحسن من خلالها ترتيب المصالح والمفاسد والموازنة بينها وفق فقه الشريعة وقواعدها، هذا هو العملة النادرة وهو مطلب الشريعة، ولا شك أن هذا الأمر يمثل معادلة صعبة لكنها سهلة ويسيرة لمن يسرها الله له، ومن اجتهد وتحرى الصواب وأخذ بالأسباب وُفق وسُدِّدَ.
وقال الوزير: لا تعتقدوا أنكم ستحملون الناس على رؤية واحدة أو معالجة أخطائهم في يوم واحد، وكل شيء يؤخذ بالقوة إلا الفكر فلا بد من مواجهته بالفكر أياً كانت دركاته، ولذلك نجد الاستعمار قد فشل فكرياً وإن نجح في نهب خيرات البلدان الإسلامية، فغالب البلاد الإسلامية التي طالها الاستعمار وِجْدَانُها إسلامي وتعتز بهويتها، ولم يتخلل الفكر التغريبي فيها إلا من خلال مفكرين يعدون على الأصابع علا صوتهم من خلال ضجيجهم وغثاء كتاباتهم، لكنهم كزورق صغير على متن بحر محيط فيه السفن الجواري كالأعلام تسير على هدي دينها ونور ربها.
كما نصح الوزير رجال الهيئة الميدانيين بطلاقة المحيا مع الناس وقال: إن لذلك تأثيراً على قلوبهم وتجاوبهم وتصورهم، والصورة الذهنية مهمة جداًَ لرجل الحسبة.
وفي الختام أبدى الوزير أمله بأن تستفيد مكاتب الصلح والتوفيق (التي تعتزم وزارة العدل تطويرها وتنتظر صدور نظامها الواعد) من منسوبي الهيئة، بحكم خبرتهم في مباشرة كثير من الحالات الاجتماعية ومعالجتها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.