تشرفت بمعرفة الشيخ الشهم يوسف المطلق منذ 40 سنة وتشرفت وشرف ديواني بالربوة بحضوره شبه اليومي منذ عشر سنوات، عرفته عن قرب وناقشته في أمور كثيرة ووجدت صدق حديث وسرعة بديهة وكرماً لا يجارى وعلو همة، قلت له ذات يوم كل صلاة يا شيخ تتكلم وتعظ. أليس في هذا مشقة عليك وربما يخالف السنة! قال رحمه الله: في الغالب أعظ الناس في الصلوات الجهرية وهي المغرب والعشاء والفجر، وتعودت على ذلك. وتعاهدت نفسي بأن لا أزيد على العشر دقائق إلى خمس عشرة دقيقة. والناس يا أبا عبدالله بالرياض يزيدون على الخمسة ملايين ومن تجب عليه صلاة الجماعة يزيد على المليون، وبعض من بالمسجد اليوم ربما لا يوجد فيه غداً. وإذا قرأ الإمام بعض الآيات هزتني، وتذكرت ما أحفظه من أحكام وتفسير، فللعلم زكاة كما للمال زكاة، وأحب أن أعلم وأذكر الناس، ومن يعلم مأمور بأن يذكر من لا يعلم بنص القرآن لقوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} والأمور سهلة من رغب في الاستماع فليجلس، ومن هو مشغول فليخرج وهو معذور، وأشعر بعد إلقاء الدرس أو الموعظة بسعادة وشعور لا أستطيع وصفه وأرجو الله أن يكون ذلك دليلاً على القبول. ومن عجائب هذا النبيل أنه لا يرد سائلاً ويجزل العطاء، أذكر أنه أمر ببناء مساكن لبعض الفقراء وأمر ببناء بعض المساجد وكان يقول: وثق بي رجال أعمال أخيار وأضع ثقتي في رجال أخيار وأنا دال على الخير وليس كل المال مني. ومن عجائبه رحمه الله، أنه صب القهوة لنا ذات يوم وقلنا له: نستحي يا شيخ منك ونخشى أن يلومنا من يراك تصب القهوة لنا، قال بتواضع شديد لا عليكم فقدوتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجمع الحطب في السفر مع أصحابه وأبوبكر رضي الله عنه يحلب الشاة للعجوز الفقيرة، وعمر رضي الله عنه يحمل كيس الطحين على ظهره ليلاً. وذات يوم كان في المجلس أحد التجار وسأل أحد الجالسين قائلاً: ما مر الشيخ اليوم؟ قلت من تقصد! قال يوسف المطلق، قلت محتمل يمر، وقال التاجر الشيخ يوسف مفسر الأحلام. قلنا نعم قال تكفون منذ مدة وأنا أتمنى رؤيته ولقياه. تصنعون بي خيراً لو أخبرتموني حين حضوره: قلنا أبشر وبعد هنيهة أقبل الشيخ -رحمه الله- كعادته وقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هب الجالسون يرحبون به كالمعتاد وقالوا بصوت واحد إذا أطريت الحصان ولّم العنان. أبشر يا فلان بالشيخ. سبقنا إلى الشيخ وقبّل رأسه وأخذ بيده وقال تكفى يا أبا عبدالله أرغب أن أخلو بالشيخ. قلنا تفضل، وأدخلناهما في المجلس الداخلي. وبعد دقائق خرجا، والشيخ عاد للمجلس، ثم ناداني الرجل على انفراد وقال يا أبا عبدالله: الشيخ يوسف هل هو يعلم الغيب؟ قلت كلا كلا، الغيب لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، لكن يتوسم، أنسيت قول الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ} وخير إن شاء الله لماذا أنت منزعج؟ قال: سأعود لك غداً وأخبرك. وعاد في الغد وقال أشهد أن يوسف المطلق ممن فتح الله عليه وأنه ملهم. اسمع ما قال لي أمس وما قلت له، قلت هات: قال: قلت يا شيخ أنا أشكو من ألم في الركبتين والساقين ومنذ أشهر أجوب العالم، والنتائج والفحوصات سليمة. والثانية الرؤيا. رأيت كلبا يهم بمهاجمتي ووجهه وجه إنسان. أتدري ما قال لي؟ ووجدت قوله حق هذا اليوم. قلت هات قال لي الشيخ يوسف أما الألم الذي لم تجد سببه، سببه أن لديك أمانة ولم تؤدها، اذهب وأدها وستشفى فوراً بإذن الله، وأديتها اليوم وشفيت ونمت، قلت والثانية؟ قال أما الكلب، هل عندك حارس عمارة؟ قلت نعم قال احذره. قلت للشيخ إن هذا الحارس مهددني وذهبت وسلمته للشرطة والله إنني أهنيكم بمجالسة هذا العالم الصالح وعلامة صدقه أن ما قاله لي واقع ولم أره في حياتي إلا في ديوان الزمام بالربوة، ومن عجائب هذا الشهم، أن أحد جلسائنا قال له يا شيخ، زوجتي رأت في المنام أنها تطل من النافذة وترى أشجارا خضراء ونهرا جميلا وحوله طيور الحمام. تبسم الشيخ وقال ما شاء الله زوجتك خطابة وهي على أجر إن شاء الله ضحك الرجل ورفع السماعة وقال لزوجته: لا تخطبين لأحد قالت له من قال إني خطابة؟ قال سألت الشيخ يوسف أوّل رؤياك قالت ماذا قلت للشيخ؟ قال قلت كذا وكذا، قالت لم أر حمام، رأيت طيور القطاء، نزل سماعة الهاتف وقال يا شيخ رأت قطاء وليس حمام، تبسم الشيخ وقال ما شاء الله رحلة قريبة لكم إلى شمال المملكة أو الشام. أخرج الرجل التذاكر وقال صدقت يا شيخ غدا سفرنا إلى الشمال. وسجلت الكثير عنه رحمه الله في الجزء الثامن والعاشر من سلسلة كتابي (نوادر من التاريخ). وذات يوم قال لي أحدهم مازحا أنتم يا شيخ عندكم أموال وتسكنون قصور. رد الشيخ عليه بحزم وقال: المال الحمد لله كسبناه بطريق شرعي وأنا من عائلة مشهورة وأعمل بتجارة العقار منذ خمسين سنة ووالله أنني لم أطلب في حياتي من أحد شيء إلا من الله ومررت بحالة عسر مثل غيري من الناس وغيبت نفسي في قطر قبل أربعين سنة ثم فتح الله علينا، ثم بحالة سعة ويسر والحمد لله، واسمع يا بني والله إنني أحصي جميع ما عندي من أموال وأدفع زكاته حتى السيارات والبيوت التي أسكنها أدفع زكاتها تحرزا وأعرف أنها ليست واجبة الدفع، وقدوتنا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان وبن عوف وطلحة والزبير. كلهم ملكوا من المال الكثير، والرسول صلى الله عليه وسلم مدح أهل الأموال بقوله: (ذهب أهل الدثور بالأجور، وقال نعم المال الصالح للرجل الصالح، والمسلم لا بد أن يكون المال في يده وليس في قلبه) وسمي المال في القرآن خيراً، وفي الحديث (كاد الفقر أن يكون كفراً) وعلي رضي الله عنه يقول: (لو كان الفقر رجلاً لقتلته) اعتذر الرجل وقبّل رأس الشيخ. رحم الله الشيخ يوسف ورحم الله من ترحّم عليه حين يقرأ هذه الكلمات ونقول للمطلق ليس يوسف فقيدكم وحدكم فهو فقيدنا جميعا وفقيد كل من عرفه وفقيد المسلمين عامة، وتقول العرب من أرث ما مات وتقول أيضاً: إذا غاب منا سيد قام سيد قؤول لما قال الكرام فعول وعزاؤنا أن أبناءه وبناته الكرام قائمون على نهجه مروءة وكرما. وجمعنا الله وإياه في الفردوس الأعلى في مقعد صدق عند مليك مقتدر. والله المستعان صالح الزمام مؤلف كتاب (نوادر من التاريخ)