البذخ والبطَر والإسراف في مناسبات الزواج ظاهرة تستحق التوقف عندها، بعد أن تفشَّت وأصبحت ظاهرة اجتماعية مرضية. الأمر كما نسمع وصل حداً لا يقبله العقل، ناهيك عن الأخلاق والقيم، ولا فكرة الاحتفال بهذه المناسبة السعيدة. صحيح أنها فرحة يجب الاحتفاء بها؛ غير أن كل ذلك يجب أن يبقى ضمن حدود المعقول، وعندما يتجاوز المعقول إلى اللا معقول فإن القضية تُنبئ عن خلل نفسي مرضي كامن في شخصية صاحب أو صاحبات أو أصحاب هذه الأعراس، يُظهر أن من سيدفع تكاليف هذه الاحتفالات الباذخة مُصاب بعقدة نقص، وشعور عميق بالدونية، فأراد أن يكون (شيئاً مذكوراً) من خلال هذا الجنون والبذخ والإسراف غير المعقول؛ فهو هنا -اعترف أم لم يعترف- يريد أن يُصبح حديث الناس، حتى وإن كان الحديث عن (جنونه) وطغيانه وسفهه وتجاوزه كل حدود المعقول؛ كذاك المعتوه الذي بال في زمزم، فأصبح حديث الناس، لكنه نال -أيضاً- احتقارهم وازدراءهم. وليمة الزواج هي بلا شك سنّة نبوية ومن مُستحبات الأعراس؛ فقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه عندما أخبره عن زواجه بأن (يولم ولو بشاة)، ولفظ (ولو) في السياق يُفيد القِلة، غير أن ذلك لا يعني البتة أن الكثرة تعني أن الأمر مفتوح على إطلاقه، كأن يولم مثلاً بدلاً عن الشاة الواحدة بألف؛ هنا ينتقل الأمر إلى (الطغيان)؛ وكلُّ شيءٍ جاوز القَدر المعقول والمقبول أخلاقياً يتحول إلى طغيان. هناك قصص تتداول عن البذخ والجنون في حفلات الزواج تكاد لا تصدق؛ والبذخ والإسراف هنا لا يقتصر على المآدب والأطعمة الفاخرة بمختلف أنواعها فحسب، وإنما يمتد إلى المظاهر الأخرى كديكورات قاعة الزواج، ومنصات الزفة وملحقاتها التي يقال إن تجهيزها يستغرق وقتاً طويلاً ومبالغ مهولة، كذلك حفلات الطرب والغناء التي تصل تكاليفها إلى مئات الألوف إذا لم تكن أكثر، وما يُصاحبها عادة من مظاهر مُتكلفة حَدَّ الطغيان المقرف والفظيع؛ ويتحدثون أن تكاليف بعض الأعراس قد تبلغ ملايين الريالات تُصرف في ليلة واحدة؛ أي أن تكاليف الساعة الواحدة في حفلة زواج ربما تصل إلى المليون ريال أو تزيد؛ فهل يعقل هذا بالله عليكم؟ وليس صحيحاً أن من حق صاحب الاحتفال أن يفعل ما يريد، بحجة أنه من سيتحمل التكاليف وليس للآخرين حق الاعتراض.. مثل هذه الأمور تحكمها الأعراف، وتمليها قبل ذلك الأخلاق والقيم ومراعاة شعور الآخرين، وبالذات شعور من لا يملكون؛ فمراعاة الآخر وشعوره يجب أن يكون هو المعيار الأخلاقي في مثل هذه القضايا؛ فعندما تصبح تكاليف زواج شابة من شاب مثلاً كافية لتزويج مائة شاب أو أكثر ممن لا يملكون، فهذا كفيل باستفزاز الآخر، وإحداث شرخ في المجتمع، ستعود انعكاساته السلبية حتماً بمزيد من (الاحتقان) الاجتماعي الذي يُكرِّس الأحقاد والكراهية بين فئات المجتمع، فضلاً عن أن مثل هذه المؤشرات عندما تتناولها من زاوية أخرى تشي بأن (الترف) الذي هو مرض المجتمعات القاتل كما يقول المتخصصون، يضرب أطنابه بشكل مخيف وربما مُدمر في بلادنا؛ وهذا ما تقوله بمنتهى الوضوح الآية القرآنية الكريمة: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}. وأرجو ألا يُفهم كلامي هنا أنني ضد الاحتفال والولائم والفرح بمثل هذه المناسبات السعيدة والغالية، إنما يجب أن تكون ضمن إطار المعقول، والمقبول، والاتزان؛ فالإنسان السوي قيمته في ذاته وفي نبله وكريم أخلاقه وليس في المظاهر القشرية المزورة التي يُضفيها على مظهره ومناسباته واحتفالاته؛ فالمرأة العظيمة والرجل العظيم لا يهمهم أن يجلسوا في رأس الطاولة، لأنهم حيثما يكونون سيكون رأس الطاولة، وسوف يُشار إليهم بالبنان. إلى اللقاء.