معالي الشاعر الوزير.. وأخاطبه بالصفة التي أحسب أنها أقرب إلى نفسه، والتي تَقْرُب به إلى كثير من النفوس والقلوب.. وحين كتبت «معالي» فهي للشاعر الذي يعلو بالشعر فوق سماوات وأراضين.. ما سما بشعره. حين تفضل بإهدائي «رحلتك».. بدأت أتقصى لحظة آنس بها إليه.. وشعرت بحرج وأنا أغالب نفسي التي ما استطاعت إلا أن تتسلل إلى بعض أبياته وصفحاته لتلتقط ملامح من الأسفار. التي بلغت به تلك القصيدة وبلَّغت من منتهى المأمول في الدنيا والأمل في الآخرة، وهي خير ختام لخير مبتدأ. وإذ يزعم المتنبي أن الكتاب خير جليس فإني أحسب أنه كتاب الشعر.. وليس كالشعر كتاب.. وجدتني أترك الأسفار متسللاً إلى مبتدأ الكتاب. وتنقلت ما بين صفحاته التي لم تنطق إلا بالجمال أو عنه. ووجدتني أرتقي وأرتقي حتى ابتدأت الأنوار العلوية تغمرني رويداً رويداً.. نور الله عز وجل ونور محمد عليه أزكى الصلاة وأتم السلام. أسفار الرؤيا لا تُقرأ في حضرة الشعر.. وإنما في حضرة ذات عبير قدسي واحتدام ذي دوي.. تترك فيه الروح الجسد إلى ساحات الأبد متخففة من أثقال الأوزار ببريق الاستغفار والثقة في المولى الذي حمل إلينا نبيه بشرى لا تفنى فجعل للإيمان بالله مفتاحاً هو المحبة.. المحبة الصادقة: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين». تلك الإشارة من الله هي التعبير الأسمى عن عظيم قدر صفيه المصطفى والذي ليس له حد «فيعرب عنه ناطق بفم» كما أفاض البوصيري. في سفر الأنا تتلخص الذات في أسمى حالاتها.. اعتراف بالذنوب وما تساقط من النفس أو إليها عبر مسيرة الحياة.. وبحث عن اليقين يمتد من بحث ويقين الخليل عليه السلام.. «هذا ربي هذا أكبر».. إلى «وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض». حين يكون السفر دون تلبُّث بالمنتهى تصبح الرحلة غير ذات جدوى.. وحين لا يكون المنتهى الله تنتهي الرحلة قبل البدء.. وحين لا تكون المحبة الزاد يصبح الوصول مأسوراً: قد طال بي سفري إليك..لنتَّحد ودمي إلى لقياك جمر يتَّقد بعد انبثاق بريق اندحار الأنا الجسدية أمام روحانية الأنا افترَّت الروح على سفر المناجاة. مناجاة للمعبود مضمخة بمحبة صاحب الحوض المورود مؤملة في أن تحنو يداه لتنتشل روحاً ما بها إلا الحب.. روح أثقلها الذنب وأطلقها الحب. معادلة لا تكون إلا حين تطلق السلاسل التي تبوح بِهَمٍّ يتجاوز الذات إلى هم الأمة التي كانت فكنا خير أمة.. تجاوزت المناجاة الفردية بمعاناتها إلى صوت يتحدث عن الكل مُقِّراً ومناجياً. هكذا الفرد.. الذي يصنع المجموع.. يجمع أسى الفرد ومأساة الجماعة منطلقاً بها دون اكتراث بما كان إلى الثقة فيما سيكون. في كل الأسفار كان المصطفى أبا القاسم أجمل مشترك قاسم. ما بين نفحة ألم أو ورجاء يأتي اسمه مشرقاً يؤنس كل حرف. وفي سفر المناجاة كان الحضور أمامه، صلى الله عليه وسلم، بالأنا المتمثلة بالصوت الذي يخاطب المجموع ويُقرِّع الذات.. صوت ينبه: «لو أنهم جاؤوك..» وصوت يتنفس: «ها إنني قد جئت منكسراً».. ثم التفاتة الرجاء من الأنا عن المجموع: هذي الحشود أتتك مثلي راعشات بالدموع خُذها إليك فإنها لذنوبها تخشى الرجوع الزمن منذ خلق الكون محطات وعلامات.. وأبقى العلامات وأكثرها إنارة هي مبعث المصطفى عليه الصلاة والسلام، والذي يدين ليوم مولده الذي تكلل بالمعجزات.. ولهذا فاض نهر المديح انبهاراً وأملاً بالخلاص جهاراً.. نهر من نور صاحب النور الأتم: بحر السماحة، الملتجى يوم القيامة.. وأصدق الأنا وأعمق المناجاة وأقرب الخلاص عند: صلَّى عليك الله في ملكوته صلت عليك، لأجلك الأكوان وأمدُّ قلبي للسلام.. فمُدَّ كفك تنحني الأزمان هنا أتوقف لأنه لا بَعْد بَعْد هنا.. سمى المحبون العارفون بعض شعر المناجاة كالذي ملكته رابعة العدوية شعراً روحانياً وعدوا ما وراءه عشقاً إلهياً. وهنا مرتبة من عشق إلهي سام هو العشق النبوي..