قدَّم د. عبدالعزيز خوجة.. تجربة مثالية أنموذجية تتضمن انجازين مهمين هما: - تجاوز الأزمات النقدية الحادة في بواكير الابداع.. - والاصرار على الوصول إلى الشعرية المقنعة.. وذلك ما فعله د. الخوجة منذ مجموعته الأولى (حنانيك) وحتى قصيدته الطويلة (أسفار الرؤيا).. الفرق ليس سهلاً، والمسافة غير معقولة بين العملين.. ففي الوقت الذي استقبلت فيه الساحة مجموعة (حنانيك) بالنقد الحاد وبكثير من الامتعاض وانعدام الأمل في شعرية حقيقية كان د. الخوجة يفكر ويتأمل ويتجاوز بشكل مختلف وغير متوقع.. قطع الشاعر (د. عبدالعزيز خوجة) مسافة ليست سهلة أبداً.. حتى وصل إلى (أسفار الرؤيا) التي أول ما يشد المتلقي فيها هو عنوانها الجديد المعاصر الموحي، وأنا هنا أتحدث عن (أسفار الرؤيا) من حيث «الشعرية والتشكيل» بعيداً عن المضامين التي لا أتصور أن هناك من يفاصل حول فقراتها أو فصولها.. إذاً لندلف الآن.. إلى (أسفار الرؤيا).. القصيدة الطويلة التي كتبها أ. د. عبدالعزيز خوجة معبراً عن تلك الرؤيا التي ناجى فيها النبي صلى الله عليه وسلم في ذكرى مولده العظيم.. فكيف كتب الشاعر قصيدته وترجم تجربته وكيف نوّع الأداء في هذا العمل الذي يعد نقلة نوعية في تجربة الشاعر الابداعية بعامة والشعرية بخاصة.. وإذا كان لابد من الإشارة قبل ذلك إلى أن د. الشاعر عبدالعزيز خوجة مرَّ بمراحل زمكانية بالنظر إلى الأزمنة والأمكنة التي قطن فيها حسب مهماته العملية، فإن من الانصاف أن نقول: ان قصيدة (أسفار الرؤيا) من الأعمال الشعرية التي تعبّر عن المرحلة اللبنانية.. حيث كتبت هذه القصيدة في تلك الفترة التي عاشها وقضاها الشاعر في الساحة اللبنانية الزاخرة بالفن والابداع، وبالمبدعين من مختلف الأذواق، والمشارب والثقافات.. وأول إشارة واضحة إلى التفوق في هذه القصيدة هي أن الشاعر مسرح تجربته في التشكيل الشعري ومنحها نفساً درامياً.. حيث قسمها إلى ثلاث واحدات متصلة ببعضها هي: (سفر الأنا) أو المعاناة الشخصية و(سفر المناجاة) أو استشعار الشفاعة، و(سفر الخلاص) أو طريق النجاة.. وقصيدة (أسفار الرؤيا) تعبر عن ذلك التمازج بين الخاص والعام، بين الهم الذاتي والهم الجمعي، بين الفرد والأمة.. وتلك - دون نقاش - مهمة عظيمة ومستوى كبير يتوق إليه الشاعر في مهماته التعبيرية عن ذاته وعن أمته ولاشك أن انطلاق الشاعر د. الخوجة من مناسبة المولد النبوي الشريف وإشارته إلى مكمن الكارثة ثم افصاحه عن طريق النجاة.. أنها تشتمل على إدراك ووعي لما ينبغي أن يكون فعلاً.. يفتتح الشاعر سفره الأول سفر الأنا سفر المعاناة بهذه المكابدة: مت يا أنا.. أو كف عني للأبد.. نفد الجلد.. إما على جمر اللظى.. قدماي.. أو.. فوق البَرد.. أترك يدي.. لا تعطني يدك اليمنى وعداً.. يقيدني.. بأغلال من الماضي.. وأغلال من الآتي وحبل.. من مسَد.. ليصور لك مدى الصراع والرفض بينه وبين ذاته، بينه وبين محيطه الذي ليس على ما يريد ويبتغي. وبعد أن ينوع الشاعر في تشكيله الشعري على هذا الوتر الذاتي المؤلم، يختتم هذا السفر بنشيد نفسي مذهل: ... ماضٍ.. إلى أبديتي.. روح.. تماهت في المدى.. جرح.. تناثر في الشفق.. ولئن صمت عن الهوى.. فلقد حرقت بآهتي كوناً.. بآهاتي.. نطق. وفي السفر الثاني (سفر المناجاة) سفر الركون الروحي الذي هو جسر الانتصار على النفس والذات ومعاناتها.. في هذا السفر يجسد الشاعر ذروة العمل الشعري الذي يمثل ذلك السلام النفسي والكوني بمناجاة الحبيب صلى الله عليه وسلم في مناسبة مولده ولا ينسى الشاعر في بدء هذا السفر أن يستحضر رحمة ربه وعونه وأن يشير بذلك إلى أن (الله) هو - وحده لا شريك له - المرتجى لكل عظيم.. ثم يتوجه بالمناجاة إلى المبعوث رحمة وخلاصاً للعالمين معترفاً بما يعتري الإنسان من لحظات الضعف والجنوح ومن أزمنة الغربة والضياع وغياب الحق والصواب.. يا رب إني طلسم.. ضيعتُ شفرته.. ولا أدري الجواب.. يارب: إني قد تعبت.. وطال بي سفري.. على طرق الضباب... يا سيدي.. يا أيها المبعوث للقلب اليباب.. ما أعظمك.. أن تحرث القلب الخراب يا سيدي.. قد طال بي زمن الغياب.. ...................... يا سيدي: كيف الوصول إلى مواردك العذاب. ما زلت في الغور السحيق وغايتي.. أدنو قليلاً. من سناك.. ...................... مسراك في سوق النخاسة كالمتاع.. وضميرنا المجروح لوَّح بالوداع.. قد غاب حيدرة الشجاع.. من يفتح الحصن المنيع.. ولا يهاب.. وبعد أن يوزّع الشاعر ألحانه المترعة بالألم والمعاناة بين أنواع التجارب التي تمر بها الأمة وهو يناجي النبي صلى الله عليه وسلم.. يختتم هذا السفر بهذا البحث الإنساني عن طريق الخلاص: يا سيدي.. من ذا يعيد إليَّ روحي؟ من يعيد لها الرُّواء..؟ جفت كما الأزهار.. لا عطر لها... ...................... عودي بربك واسمعيني.. لا تقولي: العمر ولَّى.. لا تقولي.................. ...................... لا تقولي: لم يعد في الأرض متسع لحب لا تقولي.. وفي قمة التوحد بالألم والمعاناة واللهفة والاعتراف بالقصور والعجز الإنساني يلوح له (الخلاص) فتحاً ربانياً فلا غير اللجوء إلى (الايمان والهدى) الذي جاء به البشير النذير حيث يفتتح (سفر الخلاص) بهذه الأمنية التي تأخذ شكل الحكمة أو العبرة: لو أنهم جاءوك.. ما شدوا رحالهم إلى جهة الضياع.. لو أنهم... ما تاه ربان لهم أو ضل في يم شراع.. ...................... لو أنهم جاءوك.. ما نصب الحداد على الجباه.. الله.. الله.. لو أدنو قليلاً من مداه.. وفي تنويع شمولي يشكل الشاعر على صور الخلاص التي تعبر كلها عن الرجوع إلى (الله) وإلى هدي نبيه الذي ما ترك خيراً إلا ودلنا عليه وما ترك شراً إلا وحذرنا منه في سياق المحجة البيضاء التي ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.. د. عبدالعزيز خوجة لو أنهم جاءوك لانبلج الصبَّاح فيهم.. وما عبثت بوجهتهم رياح.. ...................... ضلُّوا طريقهم.. وما فطنوا.. ولو جاءوك لانبلج الصباح.. ...................... يا سيدي.. وأنا خطى مهدودة تاهت دروبي.. أنت النهى.. فوق النهى.. والمنتهى كم قد حباك الله علاّم الغيوب.. صلى عليك الله في ملكوته صلت عليك.. لأجلك.. الأكوان.. وأمد قلبي للسلام... ...................... ويختتم الشاعر هذا السفر والقصيدة بالصلاة على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: مولاي: صل على الحبيب المصطفى.. ما شاء نورك في السماء وما اصطفى.. ... دامت لنا آلاؤه دمنا بها.. دمنا لها.. ما شاء أمرك واكتفى.. مولاي: صل على النبي المصطفى..)ه.. وهكذا يقدم الشاعر د. عبدالعزيز خوجة.. تجربته النوعية في هذه القصيدة بشكل شعري معاصر يوظف النفس المسرحي والتنويع في الأصوات داخل القصيدة، وذلك يعد دون شك اضافة إلى تجربته التي لم يكن أحد يتصور أن تنطلق من تلك التجارب المتواضعة في بداياته..