ارتبطت الرحلة والظَّعنُ بالشعر العربي ارتباطا وثيقا قديما، وتشرَّب أصولَها الشعراءُ حتى أصبحت من أوسع التقاليد الشعرية دراسة ونقدا، يأتي ذلك من الأهمية بمكان حينما نعلم أن موضوع الرحلة كان أحد المقدمات المهمة في الشعر الجاهلي مثلها في ذلك مثل البكاء على الأطلال، أو الإسراف في الشراب، أو وصف البطولات التي سجّلها الشاعر الفارس في حياته. وكان كل ذلك يرد في صيغ فنية مشهورة ومعروفة يعرفها من يرجع إلى كتب النقد العربي القديمة والحديثة. وقد اشتهر العديد من الشعراء بوصف الرحلة في قصائدهم مثل امرئ القيس، والمثقب العبدي، وبشر بن أبي خازم، وغيرهم ممن نعتوا الأراضين القفر، والثور الوحشي، وأشجار الدوم والنخل، كما نعتوا الظعائن وارتحالهن. إلا أن القصيدة الحديثة، حينما مرت بتبدّلات جمّة، وتطورات عدَّة، كان لابد لها أن تضع عن نيرها وصف الرحلة، والظعن، وتتوجه صوب موضوعها الوحيد، فتلهج بفكرتها في موضوع واحد، ليست الرحلة جزءا منه بالضرورة. لكنك قد تجد من أخذت نفسه على الترحال، وقد تَنَقَّلَ في فضاءِ الله يذرعه، لا ينازع نفسه في السفر منازع، وكأن تلك النفس لم تعد تروم سوى الترحال، بحيث تكون مقولة الجاحظ قد تحققت فيه، حينما وصف النفس الإنسانية بأنها تحب تَعَبَيْنِ مهما بلغت مشقتهما، وهما العمران والترحال. وهاهو الشاعر عبد العزيز خوجه قد ضمَّخ شعره بصنوف الوصف للسفر والترحال، حتى إنه جعل الرحلة هي المبتدأ والنهاية حين وسم ديوانه ب (رحلة البدء والمنتهى): (دار الأبحاث للترجمة والنشر، ط1، 1428ه، 2008م)، وهذا شيء يتفق تماما مع ما نعلمه من تنقلاته المكوكية الكثيرة. ديوان الشاعر خوجه (رحلة البدء والمنتهى) كان وفيا لوصف الرحلة، ويعكس ما يمور في نفس الشاعر من تجارب التنقل والترحال، والسفر والغربة، فجاءت الرحلة في عنوان الديوان نكرة (رحلة) مضافة إلى معرَّفٍ ب (ال العهدية) في كلمة (البدء) ثم عطف عليها كلمة (المنتهى). حتى غدت الرحلة وكأنها جزء من مجموعة رِحلات، حيث إن تنكير (رحلة)، وإضافتها إلى المعرفة في كلمة (البدء)، وهو ما يسميه النحاة بالتخصيص، يجعل القارئ يتفكر، ويتوقع رحلات أخرى يمكن أن تكون للشاعر، فهناك إذًا رحلات أخر، جعلت من تركيب العنوان جزءا من مجموعة أجزاء. قد تكون هذه الرحلة مائزة، لكونها تعبّر عن الشمول، حيث إنها رحلة (البدء والمنتهى) وكأن ما بين البدء والمنتهى مجموعة أخرى من الرحلات التي تأتي في خلفية تفكير القارئ، أو في اللا شعور. ولذلك فإن القارئ تباغته فكرة تعدد الرحلات بمجرد انتهائه من قراءة العنوان، تحديدا، حينما يصل إلى كلمة (المنتهى). وتتسرب إلى نفسه نوازع التفكير في طبيعة تلك الرحلة، بربطه الرحلة بمفردة (المنتهى) في التراث العربي الإسلامي، وما ترمز إليه من بُعدٍ دِينيّ، يشير إلى (سدرة المنتهى) التي هي في أعلى درجات الجنان، في الفردوس الأعلى، وإليها انتهت رحلة الرسول صلى الله عليه وسلم. وإضافة إلى ذلك فإن سدرة المنتهى حينما وردت في الأثر، وردت في سياق رحلة شهيرة، هي رحلة المصطفى صلى الله عليه وسلم، من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم أُعرِج به عليه الصلاة والسلام في رحلة أخرى من بيت المقدس إلى سدرة المنتهى. الرحلة هنا، في عنوان الديوان، تستمد تعريفها بأسلوب الإضافة، وتأخذ بعدا وطاقة كبيرين بأسلوب العطف في عبارة (والمنتهى) ذلك أن الإيحاء الذي تكتسيه العبارة (رحلة البدء والمنتهى) يشير إلى التفرد، ويعمق الشعور بتميز هذه الرحلة، فهي كل شيء لأنها (البدء والمنتهى)، كما نقول حين الحديث عن أمر بالغ الأهمية (أولا وآخرا كذا) أي أن هذا الأمر هو الأول والآخر لأهميته القصوى. ولأن تلك الرحلة كذلك، فهي خاتمة الرحلات، وهي أهمها أيضا، لأن البداية كانت منها والنهاية جاءت فيها، ولأنها المنتهى ففيها الصعود والمعراج، وفيها النهاية اللذيذة التي تتوق النفس إليها بعد اللغب والنَّصَبِ. هذا من حيث عنوان المجموعة، أما القصيدة التي تمُتُّ بنسبٍ إلى هذا العنوان فهي قصيدة رحلة المنتهى (ص:132). فإذا ما طفقنا نربط عنواني الديوان والقصيدة ببعضهما البعض، فإن أول ما يمكن الخروج به هو مكانة هذه القصيدة مقابل قصائد الديوان الأخرى، فهذه رحلة المنتهى، والقصائد الأخرى لعلها هي رحلة البدء. وبالعودة إلى ما ورد أعلاه (عن أن القارئ يتفكر في رحلات أخرى حينما ينهي قراءة العنوان)، فإن عنوان القصيدة هنا يجعل من (رحلة المنتهى) نصف الديوان، وبقية قصائد الديوان النصف الآخر، ولذلك فهي تدور في ذُرا مشاعر النفس الإنسانية، وعمق خلجاتها، بارتهانها إلى الكوني والغيبي والقدسي أيضا. إن الأجواء التي تدور العبارات والمعاني في فلكها في قصيدة رحلة المنتهى تحلّق بالقارئ في أمداء لا نهائية، تَخِذَتْ من اتساع الكون وفضاء الله الواسع مجالا تسبح فيه، فجاءت المعاني مؤكدة لهذا الاتساع، لتوحي بالرحابة اللا محدودة، والأفق الممتد دون نهاية أو أمد: إني وهبت جناحه وحنانه وجنونه وجميع ما تتلو الشفاه وهتفت إني عاشق ومتيّم .. هذا الهوى المجنون لا ندري مداه جاء التتابع في أسلوب العطف ثلاث مرات متتاليات في شكل تصاعدي، ثم أنهى البيت بعبارة يحس القارئ بعد الانتهاء منها أنه خرج إلى فضاء واسع لا محدود من العبارات والأقوال والأسماء وهي (وجميع ما تتلو الشفاه). وهو ما يذكرنا بالآية الكريمة في قوله جل جلاله: "وعلّم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبؤوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين، قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم" البقرة (31 ، 32)، وكأن عبارة الشاعر (وجميع ما تتلو الشفاه) تختزل في باطنها وثناياها كلَّ ما قيل وخرج من الشفاه من كلام، وأسماء، وأوصاف ..الخ. تجنح هذه القصيدة بشكل جليّ إلى التأكيد على الشكوى بالاعتماد على أسلوب العطف، مثل: إني وهبت جناحه وحنانه وجنونه وجميع ما تتلو الشفاه. أو في قوله: وهتفت إني عاشق ومتيّم، أو قوله: فأضاعني وأعادني وأذابني، أو عطف جملة على جملة كقوله: وعرفت أن الحبّ مرهون به، وهتفت وارباه لا أحد سواه. وقد يميل إلى التوكيد بتنويع الوصف نحو قوله: في رحلة قدسية غيبية. وكل هذه التنويعات في التراكيب لا تُدخِلُ القارئَ أو السامع في أجواء القصيدة وحسب، بل تعمق لديه الشعور بالشكوى، بحيث إذا ما كُرّر حرف العطف (الواو هنا) يجعل الصفة تغور في أعماق المتلقي. فعلى سبيل المثال، الشاعر هنا ليس عاشقا وحسب بل عاشق ومتيّم، ولم يهب جناحه فقط بل وهب جناحه وحنانه وجنونه أيضا، والأكثر من ذلك (كلّ ما تتلو الشفاه). فالتكرار في قصيدة (رحلة المنتهى) ليس بحثا عن مفردات وصف وحسب، بل هو حشد وتجييش لمجموعة من المشاعر الإنسانية التي أُفعِمت بها نفس الشاعر، وجادت بها قريحته، لتصل بالقارئ والسامع إلى الحال الحقيقية لطبيعة هذا الحب. إضافة إلى ذلك فإن العطف ثلاث مرات بحرف الواو يعطي إيقاع التكرار والتكافؤ، ذلك أن العطف بالواو يعني التساوي، فهي [أعني الواو] كما يقول النحاة، تعطف متأخرا في الحكم أو متقدما أو مصاحبا. ولعل الرجوع إلى الأبيات الأولى في القصيدة يوضح المعنى ويجليه، ويعطيه بعده المعنوي الحقيقي: أسمعتِ صوت الحب يهتف أننا في الكون أغنيتان ترتحلان من آه وآه وصدى هوانا في رؤاه يضيء من وهج سماه فاستخدام الشاعر لكلمة (الكون) جعل صوت الحب يرتحل دونما توقف في شكل فنّي يخاطب المشاعر لا العقول، ويهمس في القلوب لا الآذان لأنه (أغنيتان) جميع مفرداتهما مكونة من شكوى المحبين وتأوهاتهم (من آه وآه) فلا يستعصي معناهما على الفهم، ولا يحتاجان إلى ترجمان يغير معانيهما. وما يجعل تلك الرحلة دون توقف (بمصطلح رحلات الطيران) أنها تتحول إلى صدى يتردد في الكون بأسره: وصدى هوانا في رؤاه يضيء من وهج سناه ولهذا فإن قصيدة (رحلة المنتهى) تجترح من السرمدية والتكرار مرتكزا لها، تستند عليه في توكيد معنى اللا نهائية والعودة في شكل تكراري، لا ينتهي بمجرد الوصول إلى المطلب، بل كأن هناك دورانا فلكيا مستمرا، كما تدور الأجرام السماوية في الكون دون توقف: هذا أنا ما بين مجرى العطر حتى منتهاه في رحلة قدسية غيبية أجلو بها صنع الإله وأعود حتى أعتلي أقصى المنى في مرتقاه يحس القارئ بوصف الشاعر لنفسه في هذه اللحظة (هذا أنا ما بين مجرى النهر حتى منتهاه) أنه استطاع أن يصل إلى مسار معين وثابت ومستقر للرحلة، باستخدامه كلمتي (ما بين) و (حتى)، إلا أن ذلك الشعور لا يلبث أن يتغير في البيت الثالث: (وأعود حتى أعتلي أقصى المنى في مرتقاه). هكذا تأخذ الرحلة وهي رحلة المنتهى الشكل اللا نهائي في كل جزء من أجزائها، وتجعل من المستقبل رغم ذلك أمراً ميتافيزيقياً، يرتبط بجلاء برحلة الأكوان والغيبيات: (في رحلة قدسية غيبية أجلو بها صنع الإله). إن ربط المشاعر الإنسانية بالأمور الغيبية يرتقي بتلك المشاعر من مرتبتها الدنيوية إلى مرتبة قدسية، يجعل من مشاعر الحب التي وردت في القصيدة وشائج تربط بين الحسي والمعنوي، الحقيقي والخيالي، الأرضي الدنيوي والسماوي القدسي، مثله في ذلك مثل أي وشيجة تصل ما ندركه مع ما لا ندركه: وكأنني من مرتقاه لمنتهاه هوى تناثر في سناه فأضاعني وأعادني وأذابني ونهلته شهدا تقطّر من لماه وعرفت أن الحب مرهون به وهتفت وارباه لا أحد سواه فكما نلاحظ هنا ورود المفردات ذات الإيحاءات الدينية بارتباط بيّن وواضح متمازج مع مفردات العشق والحب والوله، فالمرتقى مع المنتهى، والشهد مع اللمى، وعبارة الحب مرهون مع عبارة رباه لا أحد سواه. كل هذه التراكيب تجعل من القارئ يستجيب للثنائيات في كل بيت، حتى إذا ما وصل إلى البيت الأخير وجد التفرد، فربط الشاعر الحب بهذا المحبوب فقط، في شكل مفاجئ، يشي بأنه لم يكتشف أن الحب مرهون بهذا الحبيب وحسب، إلا حينما أنهى ارتحاله، وعاد إلى محبوبته، فوجدها هي التي ابتدأ رحلة البحث من عندها، باحثا عن الحب وعاد من حيث بدأ. يمكن للمتأمل أن يجد في هذه القصيدة دورة كاملة، أو حلقة مفرغة بدأت بحكاية صوت الحب، في شكل سؤال وجّهه الشاعر / المحب إلى حبيبته: أسمعتِ صوتَ الحبّ يهتف أننا في الكون أغنيتان ترتحلان من آه وآه ثم بدأت رحلة الشك في شكل صعود وهبوط تتجاوب مع الأصداء، بل يتشظى المحبوب في جزء من تلك الرحلة، فإذا وصل النهاية يكتشف أنه عاد إلى البداية، ما يذكّرنا ببيت أبي نواس الذي يشتاق إلى محبوبته في لحظات يمكن حسابها بلحظة الطرف، فبمجرد رفع بصره عنها، يعود القلب إليها مشتاقا: ما يرجع الطرف عنها حين أبصرها حتى يعود إليها القلب مشتاقا وهاهو الشاعر خوجه لا تلبث رحلة البدء في الانطلاق حتى يعود ثانية إلى رحلة المنتهى، في شكل تتماهى فيه مشاعر الحب وخيالات العاشق، بواقع الحياة وفجاءة الحقيقة. وباختيار الشاعر لحرف الهاء حرفا للرويّ، يكون قد أوصل معاناته إلى قلب ولبّ القارئ، حين تكرار حرف الهاء وقبله حرف الألف، وكأنه في كل قافية يردد تأوها من فرط معاناته وشكواه. فحين يختم القارئ البيت يجد أنه ينطق مفردة (الآه) التي تأتي في مطلع القصيدة : في الكون أغنيتان ترتحلان من آه وآه فتأتي معبّرة عن الشكوى، حتى إذا ما انتهى القارئ منها يجد أن لسانه ينطق بها في كل مرة في شكل إيقاعي لتؤكد شكوى الشاعر ومعاناته، فيجد نفسه يقول مع الشاعر في قوافي قصيدته: سماه، ذراه، الشفاه، مداه، منتهاه، مرتقاه. حتى إذا بلغ البيت الأخير وجد الشكوى الحقيقية في تفرّد ذلك المحبوب بحبه، فيلجأ حينها إلى ربه: وعرفت أن الحب مرهون به وهتفت وارباه لا أحد سواه