لم يعد سراً تلك المعاناة التي تكتسي الملفات الخضراء داخل أروقة المحاكم مسافرةً بين رحلات الإجراءات البيروقراطية و تلاعب المدينين مالياً ، فمنذ سنين ونحن نسمع ونقرأ ونشاهد بأعيننا أمثلةً تقف على حافة الخيال لقضايا أشبه ما تكون برحلةٍ مكوكية لتدخل في رحلةٍ أطول وهي رحلة التنفيذ ، لذا فلن أسهب في تلك المعاناة و سأركز على جزئية تنفيذ الأحكام. إن من سبق بمزاولة أعمال مالية ثم وقع في فك التلاعب بأمواله من أحد المماطلين يعرف جيداً ما قد يواجهه من الفن الذي يتمتع به هؤلاء المتلاعبون في ضل ضعفٍ في البت و تراخٍ في تنفيذ الأحكام القضائية. إن تنفيذ الأحكام الصادرة بصكوك شرعية من المحاكم أو من الجهات القضائية قد يأخذ مماطلة أكثر من وقت المرافعة بسنوات! ومن يتعاملون بهذه القضايا بالتأكيد شاهدوا مثل هذه المسرحيات، وأعرف قضاياً كثيرة على من يملك ثروات طائلة وعليه أحكام شرعية بصكوك قطعية ومع ذلك فإنه يماطل باحترافية ويعرف كيف يتفنن بالتلاعب على النظام المرن المترهل، وغالب من لديهم حقوق مالية لدى المماطلين يعانون قلة الحيلة وعدم قدرتهم على تعلم فن المراوغة والتحايل، وأعجبني من قال: «عندنا .. أن أردت أن تستثمر فعليك أن تحصل على خبرة بفن التحايل لتعرف كيف ترغم المماطل على السداد «، والغريب أن بعض الدول بجوارنا لا تعاني مما نعانيه!!. ولو قامت الجهات ذات الصلة بإجراء دراساتٍ إحصائية حيادية لوجدت أن المماطلة والتهرب من تنفيذ الأحكام صارت مرهقة للدوائر الحكومية وهي سبب من أسباب ضياع أوقات المسئولين، ولو علم المتلاعب أنه سيردع لا محالة فإن ذلك سيجعله لا يقترف الخطأ منذ البداية، وخصوصاً إذا تم إدراج اسمه ضمن قائمة المماطلين عبر قاعدة بياناتٍ وطنيةٍ متاحةٍ للاستفسار حال الحاجة. وإن من المفارقات العجيبة أنك ترى بعض الدول غير المسلمة وتستعجب من التزامهم بالسداد وتنفيذ الأحكام حتى أنه يندر من يتأخر بتنفيذ الأحكام ناهيك عن من لا ينفذ الأحكام أصلاً.. أفليس من الأولى أن تكون هذه أخلاق المسلمين؟! وإذا لم يكن دينهم ما يدعوهم إليه فلم تلك الانضباطية والوفاء؟ الإجابة ببساطة هي أنهم يعلمون ما ينتظرهم من عقوبةٍ صارمة لا تجامل أحداً مهما علا شأنه بمنظمة لديها نظام يحترمه الجميع كي لا يجد نفسه في لائحة سوداء لن يخرج منها حتى مماته و سيطوق بخناق الحاسبات عبر منظومة مترابطة، ففي بعض البلدان يمتلك كل فرٍد من أفراد المجتمع سجلاً ائتمانياً يحمل معلوماتٍ تاريخيةٍ للتعاملات المالية والوفاء ليبقى صاحب السيرة العفنة منبوذاً ومحروماً من امتيازاتٍ كثيرة. إذن ما ينقصنا ليس اختراع نظامٍ جديد وإنما هو الاستفادة من الأنظمة المعمول بها في بعض الدول الرائدة في حفظ الحقوق و تطبيق نظام قوي يجعل المدين هو من يلحق الدائن بالسداد وليس العكس، وأن تكون عقوبة المماطلة في تنفيذ الأحكام أشد من الأحكام ذاتها، وبعد تطبيق ذلك ستنتهي المسرحية وسنرى كم ستنخفض كمية المماطلين بل ستنعدم لدى الجهات الحقوقية.. وكم ستكون عجلة دوران المال سريعة ضمن إطار مالي مضمون العواقب وسنشاهد أموال المستثمرين تعمر البلاد دون تخوفٍ أو تحفظ. خلاصتي: 1) لابد من تطبيق نظام إلكتروني حكومي يكشف المتلاعبين ويكون ميسر لكل من رغب أن يستفسر. 2) لا بد من تطبيق عقاب شديد على من يصدر بحقة حكم قضائي ولم ينفذه. 3) رقابة الأحكام التي تأخر تنفيذها من جهة محايدة تقيم دور الجهات الحقوقية. وختاما فأنني أوصي بالحذر من التلاعب بأموال الناس فقد قال صلى الله عليه وسلم: (مطل الغني ظلم) وقوله: (من أخذ أموال الناس يريد أدائها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفها لله).