أصوات الطائرات.. الصواريخ.. القنابل..، عويل النساء وبكاء الأطفال، خوف وهلع.. النار تضىء الكون بعد انقطاع الكهرباء.. جفاف.. لا ماء .. أكاد أختنق!! أين الهواء في هذا الفضاء؟. جوع..!! أهذه حبة قمح التقطها أم هي بقايا قنبلة؟ لا أكاد أميزها!! سأنتظر حتى تضىء النار الأجواء من جديد لأعرف إن كنت سأضعها في فمي أم أدفنها في جلدي.أه.. أخيراً.. بالكاد نمت.. جائعا وببعض ثقوب في جلدي.. متى يلوح الصباح؟ لا أعلم لماذا أنتظر الصباح.. ولكنه على كل حال أفضل من هذه العتمة المشتعلة التي ألهبت جلدي. وطلع الصباح دونما بصيص نور.. ماهذا الأزيز في رأسي.. بل أين رأسي؟.. هذه عيناي كل واحدة ملقاة في اتجاه.. اتجاه الحبة واتجاه القنبلة.. أتراني أصبت بالحول من جراء متابعة الحبة وشظايا القنبلة؟!.. ولكن أين رأسي الذي كانت عيناي مزروعتين فيه؟؟ من اقتلعهما من محاجرهما.؟ سأقوم بالبحث عنه وعنهما.. ولكن أين أقدامي.. كيف يمكنني السير؟ هذه قدمي أكاد أراها تحت التراب.. بجانب عيني اليمنى!! أم تراها اليسرى؟. سأسحب قدمي من تحت التراب.. وأبحث عن الأخرى.. ومددت يدي.. ولكن أين يدي؟. كيف لي أن أسحب قدمي ويدي مفقودة..؟!! ماذا يجري خلال الدقائق التي ظننت أني نمت فيها؟؟. يارب ماذا جرى؟.. أين أنا؟ .. أين بقاياي؟؟ من بعثرني؟؟ من عبث بي؟ نمت جسداً متكاملاً.. نعم جسداً محطماً.. بلا روح، لكنه جسد على أي حال.. فماذا جرى؟؟. تحركت عيني الأخرى اليسرى التي كانت عالقة بحبة القمح..، رأيت بها دمعة حائرة فأرحتها من حيرتها وأسقطتها.. على الآخذ. كلي يبحث عن بعضي.. لم يكن فيّ شيء متماسك مع الآخر حتى أضلعي كل واحد منها ملقى في مكان.. من يا ترى قطعني إلى أشلاء؟ أهي حبة القمح أم شظايا القنبلة؟. اعتلت قدمي التي وجدتها قمة الأنقاض لتستطلع ما جرى ولتبحث عن قدمي الأخرى.. يالهول ما رأت!!... عادت مسرعة إليَّ.. أكوام من الأقدام مختلفة المقاسات.. أكوام من الأيدي، أعداد من العيون والأضلاع المكسرة المتشابكة دونما انتماءات جسدية، فقط انتماءات دينية وبشرية إنسانية، ... قلوب تنزف ممزقة هنا وهناك. عادت لي قدمي وصرخت فيّ أن أهرب من هذا المكان.. لا تأكل القمح المسموم،إنه ملوث .. لا تبقى هنا لثانية واحدة.. لن تستطيع هذه الأعلام التي تحاول الرفرفة حولك حمايتك .. فالخيمة الكبرى تحجب كل شيء.. الهواء.. النور.. ستقتلك!! ارحل مادمت تستطيع إلى ذلك سبيلاً.. ارحل!!. صرخت فيها أن أصمتي، سأبقى أدافع عن وطني ما بقي فيّ نفس يصعد ويهبط، حتى لو مت جوعا، حتى لو تمزق جلدي.. حتى لو تبعثرت جسداً فروحي باقية.. ما أنا دونما وطن؟؟.. قالت لي خذ يدك ها أنا أعيدها إليك وسنقوم أنا وهي معا بلملمتك.. سنساعدك على الرحيل. ووضعت يدي نفسها على قلبي الذي كان معلقاً ما بين السماء والأرض.. حاولت يدي جاهدة أن تعيده لي.. حاولت معها وأنفاسي كذلك تحاول عبثاً مساعدتها لترتفع.. ولكن كانت رجلي أسرع من يدي إلى حفر حفرة تحتي انزلقت فيها، ولم أشعر إلا بقلبي يهبط فوقي وهو ينزف حتى بللني، بل وأغرقني وزادني اختناقاً.. ، لم استطع متابعة هبوط وصعود أنفاسي، كان هبوطاً فقط، بل هو صعود.. هو في اتجاه واحد على كل حال. وللمرة الأخيرة رأيت روحي تغادرني.. رأيتها تصعد.. إلى أعالي السماء.. مرت بجانب الصاروخ الأمريكي الذي رمقها بنظرة لها ألف معنى.. وحاول مرة أخرى قصفها، لكنه كان مشغولاً بقصف بشر آخرين مازال فيهم بقايا جسد، أما أنا... فكان آخر ما رأيت دونما عينين حبات قمح أخرى مشتعلة سقطت عليّ ودفنتني تحتها.. وأخيراً ساد الصمت .. ونمت!!!.