تمر الأيام تباعاً وتتعاقب الشهور تتلوها السنون، ومع كل يوم يمر تنطوي صفحة من أعمارنا بلا رجعة ونستمر نحن بالمسير قدماً فيها ما بين لاهث وراكض وماشٍ، نحاول مسابقة الزمن ونجتهد في استغلال دقائقها ومجاراة رتمها السريع، كل هذا الإيقاع المتسارع والركض الدائم لا نصحو منه ولا ننقطع عنه إلا بعدما يحدث شيء ما أو حدث جلل يصفعنا ليوقظنا من غفلتنا وليقعدنا من سباتنا، حدث يزلزل كياننا ويقذف اللوعة والأسى في قلوبنا فيجعلنا نقف مع أنفسنا ونراجع حساباتنا. تحت هذا الزخم المتسارع وفي ظل هذه الإرهاصات المتتالية وفي خضم مسابقتنا للزمن نزهد بمن نحب ونقصر بما هو مطلوب ونتجاهل واجبتنا وننشغل أو نتشاغل عن أحبتنا. قساة نحن فلا نعرف قيمة مَنْ نحب ولا نذكر ونتوقف عند مناقب مَنْ يستحق إلا بعد أن تحدث الفاجعة أو تحصل الكارثة أو يحل الفراق الأبدي فنعض أصابع الندم على تقصيرنا. في ظل كل ما سبق هناك أناس في هذه الدنيا خُلِقوا لمواساة الآخرين، وامتصاص الأزمات من أحبتهم، والوفاء الدائم لأقربائهم، فهذا ديدنهم الدائم وهمهم الأكبر فهم يتسربون للأفئدة كالماء البارد فيزرعون ابتسامة ويواسون مصاباً متحملين في هذه كله ضرائب هذا الحب الذي لا حدود له والعطاء المتدفق والسخاء الجبلي الذي خلق معهم، يدفعون صحتهم ويضحون بوقتهم ثمناً لإدخال السرور على غيرهم فيثقلون على أنفسهم ليرتاح غيرهم ويجهدون أجسادهم ليجملوا حياة غيرهم وهم قليل ولكنهم موجودون. خرجت على أرض هذه الدنيا وأول من عرفت هو، كان أخاً رفيقاً وصديقاً عزيزاً، عشت معه لحظات السراء والضراء تقاسمت معه دقائق الفرح والترح، عرفت في نبل أخلاقه وصفاء سريرته ما لم أعرفه في أحد حتى الآن، ولد يتيماً وعاش وحيداً وتوفي وحيداً ومع هذا وذاك كان حاضر الابتسامة صافي السريرة نقي القلب. لم يسيء لأحد ولم يقصر بحق قريب ولم يقطع رحماً، بل كان وافياً معطاءً يحب من حوله ويخلص لمن يعرفه، يزرع التفاؤل أمامك ويجعل منك مبتسماً في أحلك الظروف ومطمئناً في أصعب المواقف. ذاك هو أخي وحبيب ورفيق دربي المرحوم بإذن الله تعالى نايف بن محمد الفريدي الذي توفي في حادث مروري. لم أكن أتخيل بعد كل لحظة من لحظات الصفاء التي عشناها سوياً أنني سأكون أحد مغسليه في يوم من الأيام.. عذراً حبيبي فوالله لو استمديت حبري من عروق دمي ولو فردت مهجتي صفحات لأكتب لك ولأرثيك ولأذكر مناقبك لما قمت بحقك ولا أوفيتك معروفك ولكنها خواطر تزاحمت في صدري المتحشرج ألماً وحسرةً على فراقك فأحببت أن أنثرها لك على الورق لعلها تنفس من لوعتي بمصابك الجلل. حبيبي نايف أَكتبُ لك هذه الكلمات وأَجتهدُ بالعبارات كما هي عادتنا دائماً في التواصل الرسائلي بيني وبينك ولكن هيهات هيهات أن تقرأ ما أكتبه لك أو ترد عليه كما كنت سابقاً - رحمك الله - ولكني سأواصل الكتابة والدعاء لك والترحم عليك مهما طال بي العمر وامتد بي الزمن، فأنت تاريخ لا يُنسى وقامة لا يمحيها حتى الموت ولئن وارينا جثمانك الطاهر الثرى فستبقى على الأقل في مهجتي وخاطري في كل موقف وفاء ولحظة صفاء فأنت أخي وأنت شقيقي وأنت روحي وكفى!! أخي نايف.. كان آخر لقاء بيننا بالعيد الماضي وكان آخر اتصال بيننا قبل وفاتك بيوم واحد.. آه ليتني كنت أعلم ماذا تخبئ لك الأقدار لما فارقتك دقيقة واحدة ولما غفلت عنك لحظة من اللحظات. أذكر تفاصيل اتصالنا الأخير فتكاد نياط الفؤاد تتقطع.. أذكر تماماً عندما سألتك قائلاً متى سوف تأتي!؟ وكنت قد غادرتنا بالأمس ولكن ربما كان إحساس داخلي يحس بالشوق إليك والحنين لك هو ما دفعني لذلك فأكدت لي أنك ستكون عندي بعد يومين وفعلاً وفيت رحمك الله فبعد يومين أتيتنا وكنت أنا من استقبلك!! ولكن آآآه يا حبيبي لقد أتيت جسداً بلا روح، محمولاً لا ماشياً... ذهبت لاستقبالك عند المسجد لأتأكد من الحقيقة المفجعة فماذا رأيت!!!؟؟ رأيتك جثة هامدة لا حراك فيها. أمن المعقول أن يكون هذا الوجه الوضيء الذي تعلوه قطرات دم زكية هو نفسه وجه حبيبي وأخي نايف!!!! أين الابتسامة الدائمة!؟ أين النكتة الحاضرة!؟ أين العاطفة الجياشة!؟ أين المشاعر الدافئة التي أحتمي بها كلما هبت رياح التوحش وصقيع الأزمات وأين وأين وأين!!!؟؟؟ أسئلة حائرة بلا إجابات. وتساؤلات كثيرة تتزاحم بذهني وتتلعثم تباعاً في لساني وأنا أزيل الغطاء عن وجهك الطاهر لأكحل عيني بنظرة أخيرة أتمنى تكرارها في الجنة إن شاء الله فلا أجد لها جواباً غير صمت مطبق يخيم على أجواء هذا اللقاء الأخير والوداع المر.. حبيبي نايف لم أستغرب استمرار النزف الدموي من الجرح الذي في جسدك الطاهر بعد الغسيل لأني كنت أعلم أن قلبك الكبير الذي وسع القريب والبعيد واحتضن الصغير والكبير ليس من السهولة بمكان أن يتوقف عن النبض معنوياً على الأقل حتى وإن توقف جسدياً أو مادياً. نعم حبيبي لن يقبل قلبك التوقف.. لأن القلوب الكبيرة، تختار أن تسكت، دون ضجيج.. ولا تتوقف عن العطاء، أو حتى النبض المعنوي فهي لا ترضى أن تبوح للناس، عما فيها.. من وجع، وقسوة.. وإن اتخذوها ملاذاً.. ليس لديَّ ما أفكر به، وأنا ألقي بنظري عليك، وأحس أن برزخاً هائلاً، بدأ يتشكل.. ويفصل بيننا. قلبي يناديك من الأعماق.. يصرخ، ويمد يداً، لكنك لا تسمعني، ولا تستجيب لي كما عودتني.. أنا أمامك أهوي في لجة حزن، ويضيق الأفق نحوي، ويعتريني الشعور بالفقد.. وتحاصرني الوحدة الموحشة وتضيق الديار عليَّ كلها بما رحبت وأرجو أن يتسع عليك قبرك مد بصرك، أعيد الكرة في النظر إليك والتأمل بوجهك الوضيء فلا أجد غير عينين نصف مفتوحتين، ووجه ساكن لا يرف.. لمست جسدك فوجدته دافئاً مثل قلبك الذي كنت ألوذ به مراراً، كلما اشتد الصقيع.. وأطبقت الأزمات.. أخذت أعيد النظر إليك، فما رأيت غير قلب كبير احتوى الوفاء فأعطى الحب، احتوى الصدق فزرع المحبة. نعم ارحلْ يا بقية الفؤاد ويا روح الجسد الذي خلفت بعدك فلا يدري أيبكي على فراقك أم على بقائه هنا وحيداً غريباً محاطاً بالكثير من الأوجه التي تختلف تماماً عنك، فمن أين سأستمد طاقتي وقوتي دون أن أحظى باتصال منك أو بزيارة لك أو حتى بتعشيم نفسي بلقاء قريب معك؟؟؟ حبيبي نايف ماذا أفعل وكيف أتصرف برسائلك التي ملأت أدراج مكتبي كنت حينها أعرف أن هناك مَنْ يهتم بحالي ويهمه أمري لقد كنت - رحمك الله - متواصلاً ووافياً معي فها هي رسائلك تحيط بي وأوراقك تحاصرني وكأنها تقول لي مسكين أنت مَنْ سيتواصل معك؟ ومن أين لك اهتمام كهذا الاهتمام؟،،، أأتركها لتذكرني دواماً بروحك الطاهرة أم أمزقها؟ وهل أستطيع ذلك!؟ لا أظن لأن بتمزيقها تمزيق لعلاقة روحية أبدية ستظل مدينة لك ما امتد بها العمر غير تلكم العلاقة الجسدية التي دفنتها معك في قبرك، إذاً سأتركها أمامي حتى تستجلبني دمعة دائمة كل ما رأيتها لعل سح هذه الدمعات يوطن النفس أو حتى يزيل حسرة الفؤاد. ما أروع وفائك رحمك الله، حتى في اتصالك الأخير عندما سألتني عن أحوال دراستي وقلت لي بصوت متهدج يملأه الحب والصدق (الله يوفقك).. إنني لا أحس بدفء هذه الكلمة وصدقها إلا عند مرورها بين شفتيك. أذكرك يا غالي فأذكر ذلكم التفاؤل الدائم الذي يلازمك مع كل تلك الظروف القاسية التي تحيط بك... رحمك الله رحلت حتى قبل أن تستقر ومع ذلك لم يتغير هذه كله من تركيبتك الحانية وشخصيتك التي أعطت دون مقابل وبذلت دون كلل.. كانت أول مرة وآخر مرة رحمك الله تزورني في مقر عملي في ثاني أيام العيد الماضي وكأنك تريد الاطمئنان على مستقبل ومكان أخيك الأصغر قبل أن تودعنا الوداع الأخير وكنت خلال الزيارة حاضر الابتسامة خفيف الروح كما هي عادتك دائماً ثم وجهتني بكلام لا يزال يرن صداه في أذني،،،،،،، آه كم كانت تلك الكلمات والتوجيهات تحوي الكثير من الصدق والإخلاص ممزوجة بنبرة وداع لم أستشعرها إلا بعد رحيلك المر رحمك الله. تربينا سوياً وعشنا جميعاً في كنف والدي - أطال الله عمره وعظم أجره بوفاتك - فكنت في كل لحظة أحسك أخاً قريباً وصديقاً حنوناً فعلمتني خلال تلك الفترة كيف تكون المحبة بلا حدود وكيف العطاء السخي الذي لا يُنتظرُ له مردود، أذكر تفاصيل حياتنا فأذكرك والله عطوفاً حنوناً معطاءً حاضر الدمعة. نعم حبيبي آن لقلبك أن يستريح لقد ولد هذا القلب يتيماً ومع هذا كله كنت تقحمه بكل شيء وتحتوي به كل شيء ولو قدر أن سُبرِت أغوارُ هذا القلب لوجد فيه من الحب والعطف والبذل والعطاء ما لا يتكرر حدوثه ويندر وجوده فرحم الله ذلك القلب الكبير وصاحبه.. وما أعظم مصابنا بك. لقد أيتمتنا يا أخي جميعاً برحيلك.. صدقني أن الجميع مكلوم وكل من يتحدث عنك يعتقد أنك تحمل له من المعزة والتقدير أكثر من أي شخص آخر ولم يعرفوا ما أعرفه أنا عنك أن قاعدة الحب بقلبك تتسع للجميع والوفاء لديك يحتضن الكل. مسكينة هي مجالسنا من بعدك فقد كنت - رحمك الله - فاكهتها وأنيسنا بها فبمجرد قدومك يتسرب الأنس والفرح لا إرادياً لجميع الجالسين. كم سأفتقدك يا غالي فبعد أن تربينا تحت سقف واحد وعشنا سوياً فترةً ليست بالقصيرة تقاسمنا فيها الحلو والمر وبعد أن تزوجنا في ليلة واحدة وجمعتنا روح واحدة حتى وإن افترقنا جسدياً لظروف العمل، فقد كنت أحس بك مع كل نبضة ينبضها قلبي ومع كل خفقة يخفقها فؤادي فها أنت تودعني وتتركني وحيداً إلا من بعض الذكريات والأشياء التي سيلازمني معها الحزن لفترة ليست بالقصيرة فمثلك سيبقى ذكرى عطرة وسيرة خالدة تدغدغ المشاعر مع كل بزوغ فجر يذكر بصفاء قلبك، ومع كل إشراقة شمس تنشر النور كما كنت تنشر السرور والأنس في نفوس محبيك ومع كل سحابة تمطر خيراً فأذكر فيض وفائك وكريم عطائك. آه ما أعظم فجيعتي بك ها أنت تغادر الدنيا كما غادرها والدك المرحوم عمي تماماً وبنفس السيناريو وكأنك تريد أن تؤكد لنا أن حنينك لوالدك واشتياقك له جعل من حياتكما نسخة مكررة فرحمكما الله وجمعنا بكما في جناته. ها أنت تودع ابنك محمد وكأنك تقول له ابني العزيز: لم يعبني اليتم يوماً ما وها أنا قد عشت ورحلت محمود السجايا، طيب الذكر، صافي السريرة، فكن ابني العزيز كوالدك.. أسأل الله أن يصلحه وأن يجعله ولداً باراً وخير خلف لوالده وسنداً لوالدته. أحاول أن أسرد سجاياك ومواقفك فلا أستطيع لها حصراً، أحاول ولو عبثاً أن أقف أمام شموخ أخلاقك وعلو صفائك، فأجدني عاجزاً حتى عن الوصف. ومع كثرة المواقف التي أتذكرها جيداً عن عطفك وكرمك إلا أن هناك موقفاً قد هزني من الأعماق مع أني لقربي لك لم أستغربه عليك مطلقاً فأنت مَنْ رسم لي خريطة الحب ومَنْ خَطَّ لي خط العطاء بلا حدود ومَنْ علَّمني كيف يكون السخاء وتكون السجايا الحسنة والخصال الحميدة رحمك الله. يقول الراوي إنكَ كنت معه في إحدى المرات وقد وقفتما للتزود بالوقود في ليلة شتوية باردة يكاد زمهريرها يجمد الأطراف وإذا بسائل يسألكما المساعدة فبحثتَ بمحفظتكَ التي كانت قليلاً ما تمتلئ من سخائك وعطائك فلم تجد شيئاً فنزعت معطفاً كنت ترتديه فألبسته هذا السائل!.. (اسأل الله أن يكون هذا المعطف ستراً لك من النار).. رحمك الله كم كنت كبيراً بعطفك وحنانك وبذلك وعطائك. وداعاً حبيبي وارقدْ آمناً في قبرك وموعدنا الجنة بإذن الله تعالى. غفر الله لك ورحمك وأبدلك داراً خيراً من دارك وأصلح لك ذريتك وربط على قلوب محبيك وإلى لقاء في الجنة بإذن الله. (فاصلة أخيرة) كان هالدنيا خذت مني وجودك تبي تتعب الدنيا لأجل تاخذ غلاك