ها نحن نودع عاماً كاملاً من أعوام العمر، فما أسرع ما مضى وانقضى، وما أعظم ما حوا، فكم من حبيب فيه فارقنا، وكم من اختبار وبلاء فيه واجهنا، وكم من سيئات فيه اجترحنا، وكم من عزيز أمسى فيه ذليلاً، وكم من غني أضحى فيه فقيراً، وكم من حوادث عظام مرت بنا ولكن أين المعتبرون المبصرون؟! كم شقي فيه من أناس وسعد فيه آخرون؟ كم من طفل قد تيتم؟ وكم من امرأة قد ترملت؟ كم من مريض قومٍ قد تعافى؟ وسليم قومٍ من التراب قد توارى؟ كم من أهل بيت يشيعون ميتهم، وآخرين يزفون عروسهم؟ ودار تفرح بمولود؟ وأخرى تُعزى بمفقود!! الله أكبر! أرحام تدفع وأرض تبلع! {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ}. فكم مرت فيها من العبرات واللوعات والأفراح والأتراح؟! أيام تمر على أصحابها كالأعوام، وأعوام تمر على أصحابها كالأيام!! وهذا وربي دليل على كمال عظمة الله وقوميته. الله أكبر!! عامٌ كامل تصرمت أيامه! وتفرقت أوصاله، وقد حوا بين جنبيه حِكماً وعِبراً، وأحداثاً وعظاتٍ، فها هو يطوي بساطه، ويقوض خيامه، ويشد رحاله (كل الناس يغدو، فبائع نفسه، فمعتقها أو موبقها) فالعاقل من اتعظ بأمسه، واجتهد في يومه، واستعد لغده. فنحن نمتطي عربة الليالي والأيام، وهي مطيتنا إلى الآخرة، قال عبدالله بن عمر - رضي الله عنه - أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)، لكن!! أما آن لهذه القلوب أن تخضع وتلين لذكر الله تبارك وتعالى، والموعظة الحاصلة ليل نهار من خلال توالي الأحداث، ومن خلال رحيل الراحلين!! قال الإمام ابن القيم - رحمه الله: (السنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها والأنفاس ثمرها، فمن كانت أنفاسه في طاعة، فثمرته في شجرة طيبة، ومن كانت في معصية فثمرته حنظل!). قد هيأوك لأمرٍ لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل قال أحد السلف: (الليل والنهار يعملان فيك فاعمل أنت فيهما). فلا بد لنا في هذا العام الجديد 1433ه من روح التفاؤل والإيمان، والتطلع إلى غدٍ مشرقٍ، وقطع العلائق بالخلائق، والالتجاء إلى رب الأرض والسموات، والاعتماد عليه وحده. قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: (إني لأبغض الرجل أراه فارغاً، لا في أمر دنياه ولا في أمر آخرته). فيا لله: فخزائن بعضنا ملأى بما هو له، وخزائن بعضنا ملأى بما هو عليه، فلا إله إلا الله، يخلق ما يشاء ويختار، وما ربك بظلام للعبيد. قال الحسن رحمه الله: (إن قوماً ألهتهم أماني المغفرة، حتى خرجوا من الدنيا بغير توبة، يقول أحدهم: إني أحسن الظن بربي وكذب.. لو أحسن الظن لأحسن العمل). ولماذا التسويف والغفلة؟ وأنت تعلم أن الموت يأتي بغتة {وّتوبٍوا إلّى اللّهٌ جّمٌيعْا أّيَها المؤمٌنونّ لّعّلَّكمً تفًلٌحونّ}. كان عمر بن ذر يقول في موعظة: (لو علم أهل العافية ما تضمنته القبور من الأجساد البالية، لجدُّوا في أيامهم الخالية، خوفاً من يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار). قال ميمون بن مهران: (لا يكون العبد تقيَّاً حتى يكون مع نفسه أشد من الشريك مع شريكه).. لكن!! وأصدق من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم من طال عمره وحسن عمله). اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. آمين.. آمين. *الرياض