يتهم ضربٌ من الناس بعض القنوات الفضائية العربية والعالمية بأنها تمارس شيئا من العدوان غير المباشر على الوجدان العربي، بنيّةِ سلْخ هُويته، وهزّ جذوره، بأسلوب يستنفرُ كوامنَ الحسِّ، ويستفزُّ الإحساس، وأن هذا العدوان، يستَتر وراء «حجاب تآمريّ» يموّله ويرعاه أفرادٌ أو جماعاتٌ لا تضمر لهذا الوجدان خيراً أو ترومُ له نفعا! * * * وقد طُرحَ عليّ هذا الموضوع مرةً في صيغة سؤال يتنافس فيه المكر والذكاء، فلم أجد عذْراًَ لتجاهله أو الصمت حياله، وقلت لسائلي: دعني أتساءل بدوري: لماذا تعتبرون بثَّ الشاشات الفضائية «مؤامرة» على الوجدان العربي فحسب، هويةً وكياناً؟ ولماذا الوجدانُ العربي وحده؟ أليس من الجائز القول إن ما تبثُّه بعض الفضائيات ضرٌّ يهدّد هوية الوجدان الإنساني، شرقيّه وغربيّه، عربيّه وأعجميّه؟ وإذا كنّا نحن معشرَ العرب نرى فيما تعرضه بعض تلك الشاشات مؤامرةً للإطاحة بهُويّتنا، فقولوا لي ماذا فعلنا نحو العرب لمواجهة هذا البلاء؟! أين البديل الإعلامي الذي ننقذ به وجدانَنا المصون من ذلك الخطر المبين؟! * * * ثم، أليس من بين بعض العرب مَن هم شُركاءُ في صنع وعرض كثير من الغُثَاء الذي تبثّه بعض قنواتنا العربية؟ بمعنى أننا لسْنَا أبرياء مما تبُثُّه تلك القنوات، مثلما أننا لسْنَا في كل الأحوال متلقّين فقط لما يصنعه إعلامُ الغرب، بل إننا لا نملك تزكيةَ أنفسنا إزاءَ ما نصنعه نحن بأيدينا وأسماعنا وأبصارنا إزاء بعض مظاهر ثقافتنا العربية! * * * أنبئوني أيها السادة والسيدات مَنْ الذي جنَى على الأغنية العربية، مثلا، وهي شريحة مهمة في خريطة ثقافتنا، فجرّدَها من عفّتها وهيبة النغم فيها؟ أنحنُ العربُ أم الغربُ؟ مَن الذي ابتدعَ صرعةَ «السح الدح» والإيقاع المدوّي الذي يهتزّ له الوَسَطُ لا الوجدان؟ أنحن العرب .. أم الغرب؟! مَن الذي اقتبسَ جنونَ «الديسكو» الغربي .. ليصادر به عذريّةَ النغم في لحننا العربي؟! * * * لستُ بهذا أدافع عن بعض ما يبثه الغرب من غثاء، مسموعِه ومرئيّه، ولا اعتذر له، لكنني أقول:إننا نحن العرب شركاء مع الغرب في الحاق الضرّ المعنوي لوجداننا عبر بعض الصرعات الفنية غير المسؤولة ولا المثقفة، ممثلةً في ظواهر تفرزُها مخرجات النغم والسينما والمسرح! وإذا كنا لا «نتآمر» على ثقافتنا عبر تلك الصرعات، فبمَ نسميها؟! وكيف نصنّفها، عدا أنها لون من الغباء الجماهيري نمارسُه، سواء أكنا صانعين له أو ضالعين فيه أم متلقّين؟! * * * أخيراً .. ماذا يفعل صانعُو الفن بدورهم، إذا كانت الشريحة الشابةُ في الوطن العربي وهي المستهلك الأكبر لمخرجات الفن، مسموعة ومرئية، تفضّل الألوانَ التي يعترض عليها صانعُ ذلك السؤال، ويعتبرها «مؤامرة» على الوجدان العربي؟! والواقع أنّ الفن، بمفهومه وممارساته المعاصرة لم يعد إبداعا تصْنعُه النخبة .. وتأنس به وله النخبة. لكنّه تحوّل إلى «بزنس» يخضع لديناميكيّة السوق عرضاً وطلباًَ، وربحاً وخسارة، ولذا فلن نستغربَ أو ننكر ردَّ فعل فنان يُواجَه بهذا السؤال ، حين يقول: لا تلمني .. ولُمْ السوق .. المستهلك يريده كذلك!!