حينما تلقيت نبأ وفاة صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز -رحمه الله- وقفت أمامه واجماً من هول الصدمة ولا غرو، فالفقيد عزيز على قلوب إخوانه الأماجد وذوي قرابته وكل أبناء الأسرة السعودية والعالم العربي والإسلامي الممتد شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً وفقد شخصية مثل سموه، لا ريب أن يدع فراقه في قلوب الجميع أسى وحسرة، وما أشد لوعة الفراق حين يرزأ المرء بفقد عزيز عليه، فيتمالكه الأسى والحزن لفراقه وموته غير أن مما يهون فداحة الخطب هو أن المؤمن يدرك أن قضاء الله نافذ، وإذا حل الأجل فلا مرد له، والموت حق وهو سبيل كل حي ولا بد من الرضا بقضاء الله.. وكم من الأموات الذين يغادرون هذه الدنيا ولكنهم يغادرونها بأجسادهم لأنهم يعيشون في قلوب الناس جميعا بأخلاقهم وأعمالهم الجليلة وفقيدنا الغالي يأتي في الطليعة منهم. فهو نموذج فريد في التفاني خدمةً لدينه ووطنه وأداءً للأمانة التي قلدها إياه ولي الأمر، ومن يستقرئ تاريخه المجيد خلال مسيرته الخيرة فيما تقلده من مهام وقام من أعمال جليلة يقف عن كثب على مدى ما قدمه من عطاء ثر وجهد دؤوب لا يعرف الملل أو الكلل، وحرص شديد للنهوض والارتقاء بكل ما تقلده من مناصب وأعمال، وإنجازاته ماثلة للعيان تتحدث عن نفسها في كل مجال من المجالات على اختلاف أشكالها وألوانها وأنواعها ومناحيها العسكرية والعمرانية والإنسانية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والثقافية ومن أراد أن يرصدها رصدا تاريخيا وافيا يحتاج إلى أن يطوي آلاف الصفحات لكي يوفيها حقها.. ومن الذي يستطيع أن يطوي البحر في قطرة. وحين أمسكت بالقلم لأكتب عن الأمير سلطان أحسست أني أمام سفر ضخم حافل بالمآثر الجمة عبر تلك السنين العامرة بكل مفيد وجديد ومثمر وبناء للوطن والمواطن ولا أدري أمام ذلك ما الذي أختاره، فكل مآثره جوهرة في عقد ثمين يعجب الناظرين ويبهر المتأملين، وفي هذه العجالة لم يكن لي من بد إلا أن أبوح بشيء مما يكتنُّ في نفسي من الأحاسيس والمشاعر تجاه شخصيته العزيزة، وأكتفي فيها بفيض من فيض على النحو الآتي: 1- عاش سموه عمراً أشرقت شمسه، وتوهج قمره، وازدانت أيامه ولياليه بالخير والعطاء والنماء، وأينعت ثماره محبة ووفاقاً وتلاحماً بين الراعي والرعية وتوّج ذلك كله العمل الدؤوب بهمة لا تعرف الكلل أو الملل، وبروح وثابة تواصل الليل بالنهار استشعاراً لعظم المسؤولية، وإخلاصاً في أداء الواجب نحو الدين ثم الوطن والمواطن في شتى مجالات الحياة من تعليمية وثقافية وصناعية وزراعية، واقتصادية واجتماعية، وعمرانية، وصحية، وأمنية وعسكرية، وإدارية، وسياسية، وكل ذلك في ظل تعاليم الإسلام السمحة والحرص على بلورتها وتطبيقها، وإرساء دعائمها، حتى وصلت المملكة العربية السعودية بمساعيه الخيرة إلى مصاف الدولة الراقية، وقفزت إلى القمة، بل أصبحت محط أنظار العالم، ومثلاً يحتذى، وكل ذلك في زمن قياسي قصير، ولا غرو فقد كان ذلك نتاج الإدارة الصادقة، والعزيمة القوية، والجهود المخلصة وصدق التلاحم بين الراعي والرعية. 2- عاش يرحمه الله عمراً ينبض بخير عميم تخطت سحائبه المكان إلى أوسع نطاق فهطلت بخيرها على العالم العربي والإسلامي دعوة إلى المحبة والوئام والوفاق، ونجدةً ونصرةً لأصحاب الحق في فلسطين وغيرها من بلاد العرب والمسلمين، ودعماً لكل من تحل به نازلة أو ضائقة، وحسماً للنزاعات والخلافات بين الأشقاء حين يعرض شيء من ذلك في بعض البلاد العربية والإسلامية كما كانت خطوته في هذه المسيرة المباركة حافلة بالحكمة والرأي الحصيف والمواقف الحاسمة حين تدلهم الخطوب، ويدنو الخطر، فينهض العقل ببصيرة ثاقبة، ووعي دقيق، وتبرز الدبلوماسية السعودية لحل القضايا الحاسمة، وهي تنطق بمبادئ أساسية من أبرزها أن المملكة لا تعتدي على أحد ولا تتدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة، وتسعى إلى لم الشمل وإشاعة الوئام ووحدة الصف بدل الفرقة والخصام، وتعالج ما يطفو على السطح من مشكلات ونزاعات بحكمة وروية بعيداً عن التهور حرصاً على أواصر الوفاق والوصول إلى الحلول السلمية وقد شهد بذلك كبار القادة والسياسيين، وكان سموه يحرص على زيارة المدينة في شهر رمضان المبارك، ولا ريب أن هذا الحرص من سموه على هذه الزيارة نابع من إحساسه العميق بما لمدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم من مكانة ومنزلة في نفسه ونفوس المسلمين بعامة، إلى جانب الإحساس بمشاعر الحب لها، هذا الحب الذي دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد). على أن هذه الزيارة تحمل معها دائماً ما يتمتع به سموه من أريحية وسخاء وحب لفعل الخير وبذل المعروف، وقد ظهر ذلك بوضوح وجلاء في التبرعات السخية التي حظيت بها مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم في أثناء زيارته الميمونة نالت جهات عديدة نصيبا وافراً منها، وبلغت في إحدى زياراته الميمونة واحداً وأربعين مليوناً وخمسمائة ألف ريال، منها خمسة وعشرون مليون ريال لمنسوبي القوات البرية بالمدينةالمنورة خصصت لدفع إيجار مساكنهم لمدة عام، وعشرة ملايين ريال لمؤسسة المدينة الخيرية لتنمية المجتمع وخمسة ملايين ريال للنادي الأدبي الثقافي، ومليون ريال للجمعية الخيرية لرعاية الأيتام، وخمسمائة ألف ريال للجنة رعاية أسر السجناء ولا شك أن هذه التبرعات تنبع من نفس مجبولة على حب البذل والعطاء بكل أريحية وطيب نفس ورغبة في اكتساب الأجر والمثوبة من الله سبحانه وتعالى. ومن يتأمل الجهات التي طالها هذا الخير والعطاء يجد أنها جهات تقوم بدور فاعل في خدمة المجتمع والثقافة والأدب والفكر كما هو الشأن في مؤسسة تنمية المجتمع والنادي الأدبي حيث إن المؤسسة تهدف إلى تمكين مجتمع منطقة المدينةالمنورة من تحقيق التميز الشامل في المجال الاجتماعي والاقتصادي حسبما جاء على لسان أمين عام المؤسسة، أما نادي المدينة الأدبي الثقافي فيهدف إلى نشر الوعي الثقافي والأدبي والمعرفي في مجتمع طيبة عن طريق إقامة المحاضرات والندوات والأمسيات الشعرية والأدبية والثقافية، وطباعة الكتب، وإصدار الدوريات الأدبية والثقافية ورعاية المواهب الشابة والتبرع السخي الذي حظي به النادي هو فاتحة خير يمكنه من إنجاز مشروع مقره وتنفيذ برامجه الأدبية والثقافية المتنوعة التي تصب في خدمة الثقافة والأدب والفكر في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وفي بلادنا العزيزة بعامة، وامتد عطاؤه السخي إلى مركز بحوث ودراسات المدينةالمنورة حيث تبرع له يرحمه الله بمبلغ خمسة ملايين ريال كانت فاتحة خير لهذا المركز أنشأ فيها الوقف الذي يعود ريعه على المركز وعلى ما يقوم به من بحوث ونشرات ومؤلفات حول مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، على أن المجال العلمي والثقافي بعامة لقى من سموه كل عناية واهتمام ورعاية، ويبدو ذلك واضحاً في الأعمال والجهود الجليلة التي تنبثق عن مؤسسة سلطان بن عبد العزيز آل سعود الخيرية في مجال المساهمة في التنمية العلمية والثقافية، ويمكن أن ألخص ذلك من خلال حديث صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن سلطان بن عبد العزيز، الذي نشر في جريدة «اليوم» العدد 12529 يوم الخميس 22 رمضان 1428ه، وذلك على النحو التالي: 1- إنشاء مركز سلطان بن عبد العزيز للعلوم والتقنية (سايتك) وأهدى إلى جامعة الملك فهد للبترول والمعادن. 2- إقامة جسور تعاون مع الأكاديميات العلمية العالمية. 3- تفعيل برنامج سلطان بن عبد العزيز للعلوم العربية والإسلامية بجامعة كاليفورنيا (بركلي) الذي يسعى لتصحيح الصورة الذهنية عن الإسلام والعالم العربي. 4- برنامج التعاون مع جامعة بولونيا بإيطاليا لدعم الدراسات العربية والإسلامية. 5- برنامج حفظ التراث الإسلامي بالتعاون مع جامعة أكسفورد. 6- دعم برنامج المنح الدراسية في جامعة الخليج العربي للدراسة في مجال التربية الخاصة، وقد استفاد منه حتى الآن (44) سعودياً وسعودية. 7- تبنى برنامج لتطوير التربية الخاصة في المملكة بالتعاون مع الجامعات والكليات. 8- دعم برنامج المنح للمتفوقين وذوي الاحتياجات الخاصة ويشمل (629) منحة. 9- برنامج الأمير سلطان للاتصالات الطبية والتعليمية (ميديونت) الذي حقق نجاحاً غير مسبوق في خدمة القطاع الحكومي والأهلي فيما يتعلق بخدمات الطب الاتصالي، أو خدمات التعاملات الإلكترونية وأنظمة المعلومات الصحية، وخدمات الاتصال المرئي وتشغيل مراكز المعلومات. 10- إصدار العديد من الموسوعات والدراسات والأبحاث المتخصصة، ومنها موسوعة سلطان بن عبد العزيز المشهورة. وبنظرة واعية إلى هذه البرامج والمساهمات يدرك المتأمل لها مدى البعد المعرفي والعلمي والثقافي الطموح الذي يتطلع إليه سلطان الخير. ولم تقف سجايا العطاء والسخاء عند هذا الحد بل إنها تترى وتتوالى بشكل دائم ومستمر وشامل يتدفق في جوانب ومجالات عديدة إنسانية واجتماعية وثقافية وعلمية وتقنية وطبية وصحية تراها ماثلة للعيان في كل مكان. كيف تخبو سواطع الخير وآثارها بكل مكان ومن يستعرض الإحصائية التي نشرتها جريدة «المدينة» في العدد (16232) يوم الأربعاء 21 رمضان 1428ه يقف على هذه الحقيقة بوجهها المشرق الوضاء وقد بلغت التبرعات في هذه الإحصائية مئة وسبعة وثلاثين مليوناً خلال ما يقرب من سنة ابتداء من رجب 1426ه إلى ربيع الأول عام 1428ه واستفادت منها ثلاث وثلاثون جهة وجمعية خيرية وإنسانية واجتماعية وصحية وعلمية وتقوم مؤسسة سلطان بن عبد العزيز آل سعود الخيرية بعمل دؤوب ونشاط متواصل ودور فاعل في هذه الاتجاهات كلها اتجاهات الخير العميم والعطاء المتدفق الذي يرسم البسمة على شفاه المحتاجين والفقراء والمتطلعين إلى ما يعينهم على أعباء الحياة، وما أروع سجايا السخايا والعطاء في سلطان الخير إنها سجايا من عشق المعروف وحبب إليه البذل والإنفاق فيما تعود بالنفع إلى الناس. هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله ومن هذه صنيعه محبوب عند الرسول صلى الله عليه وسلم (أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أي الناس أحب إليك قال: أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة أو تطرد عنه جوعاً أو تقضي عنه ديناً) وهذا غاية ما يتمناه الإنسان وكما يقال (حصاد من يزرع المعروف في الدنيا اغتباط في الآخرة) (والمعروف أيمن زرع وأفضل كنز) وصنيع المعروف تشرق به نفوس المتطلعين إليه، والجانيين لثماره كما يوطد ويقوي الصلة بين الباذل له والمستفيدين منه يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنه (ما رأيت رجلاً أوليته معروفاً إلا أضاء ما بيني وبينه) ومما يدور في فلك هذا المعنى قول الحطيئة: من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس على أن الحديث عن الفقيد الغالي ذو شجون ويختلج في النفس الشيء الكثير عنه وفي نهاية المطاف لا أملك إلا أن أقول يرحمك الله يا سلطان الخير والإنسانية ويا بحر العطاء ويا مؤسسة الخير والعطف وما أقسى فراقك على القلوب ولكنها إرادة الله ولا راد لقضائه وحسبك ما تركت من أعمال وآثار جليلة تحيي ذكراك وتنقش اسمك بأسطر من نور في صفحات التاريخ ولا يفوتني وأنا أخط هذه السطور أن أتقدم بخالص العزاء وأصدقه لمقام خادم الحرمين الشريفين ولجميع أفراد الأسرة الكريمة ولكافة الأسرة السعودية وجميع محبيه في العالم، و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}. عبد الله عبد الرحيم عسيلان رئيس نادي المدينةالمنورة الأدبي