ينشرح صدر الإنسان حينما يرى هذه الجموع الغفيرة تملأ ساحات المسجد الحرام متوجهة إلى ربها عز وجلَّ، ويشعر الإنسان بالغبطة وهو يرى أجناساً مختلفة، وألواناً متعددة، ولغات متباينة يجتمعون في هذه البقاع الطاهرة قادمين إليها من أطراف الأرض، باذلين من المال والجهد والوقت شيئاً كثيراً، وهم بما بذلوه مسرورون لأنَّه أوصلهم إلى بيت الله الحرام. إنَّه لمظهر رائع يستحق أن ينشرح له الصدر، ويسعد به القلب، وأن يفخر به المسلم غاية الفخر لأنه المظهر الوحيد الذي يجري -بهذه الصورة- في هذا العالم الذي نعيش فيه. ولكن هذا المظهر البديع، وهذا الاجتماع الفريد ينطوي على ما ينغِّص على المتابع فرحته، ويؤذي مشاعره، ويعدوه إلى الحُزْن المشوب بالأسف على ما يحصل من المسلمين من صدام وخصام، وقسوة في التعامل، وتدافُعٍ يؤكد وجود خَلَلٍ في منهج التراحم والتكاتف والمودة بين المسلمين، وما يحصل من -أكثرهم- من مخالفة للنظام، وعدم تورُّعٍ في بعض أنماط السلوك التي لا تليق بالمسلم في أي موقع من الأرض، فكيف به وهو في رحاب البيت الحرام، وساحات هذه البقاع الطاهرة. إنَّ ما يؤلم في هذا الجانب هو الشعور بعدم وجود تربية إسلامية صحيحة للإنسان المسلم، سلوكاً وتعاملاً، وإلا لما حدث منه ما يحدث من مصادمة ومخاصمة، وقسوة، وكأنه لا يعرف شيئاً من أخلاق الإسلام وتعاليمه، ولا يتلو الآيات القرآنية أو يقرأ الأحاديث النبوية التي تدعو إلى التراحم والتعاون، والمودة، وهي في كتاب الله سبحانه وتعالى، وما صح من الحديث عن رسوله -صلى الله عليه وسلم- كثيرة واضحة في التوجيه إلى أرقى أنماط السلوك والخلق الفاضل والتعاون، بل كأن هذا الإنسان المسلم الجافي لم يتلقَّ توجيهاً في حياته إلى التعامل بالحسنى، وعدم الإساءة إلى غيره بدون حق. الصور المؤلمة في داخل هذه اللوحة الإسلامية الرائعة التي نراها في هذا المسجد الحرام المبارك، صور كثيرة تدلُّ على وعي ناقص في هذا الجانب المهم، ألا وهو جانب التعامل والتراحم بين الناس. لقد هالني ذلك الموقف الذي رأيته داخل المسجد الحرام، وأشعرني بضرورة إطلاق حَمْلةِ توعيةٍ شاملة في عالمنا الإسلامي كلِّه تحمل اسم «حملة التراحم» تقوم فيها كل دولة مسلمة بدورها الواجب عليها في بثِّ هذه الحملة بين مواطنيها لتعديل ما اعوجَّ من سلوك المسلمين الذين يتسابقون ويتدافعون إلى البيت الحرام رغبةً في الأجر، وحبَّاً للبيت الحرام، وقبلة المسلمين فيه. أما الموقف فهو شجار حصل عند مقام إبراهيم تحوَّل إلى سِبَابٍ مُقْذع، وإلى تدافع بالأيدي، كاد يتحوَّل إلى معركة حامية، وسببه فَوْجٌ من هذه الأفواج التي تلبس لباساً واحداً، وترفع شعاراً واحداً خاصاً بها، وتتشابك بالأيدي، وتنطلق في طريقها - في المطاف - لا تبالي بمن يكون أمامها من النساء وكبار السنِّ والأطفال، فالمهم عند تلك الكتلة البشرية أن تتماسك، وألاَّ يفترق أفرادها عن بعضهم، حتى لو كان في ذلك ما هو أشدُّ من الإيذاء الجسدي، ألا وهو الموت، هذا ما توحي به مسيرة تلك الأفواج البشرية المتماسكة. حينما آذى ذلك الفوج الناس توجه إليهم بعض الطائفين بالنصيحة قائلاً: اتقو الله في أنفسكم وفي الناس، فما كان من قائد ذلك الفوج المهاجم -وهو الذي يرفع صوته بالأدعية وبقية الفوج يردِّدون وراءه- ما كان منه إلا أن بحلق بعينين كالجمرتين المتقدتين في ذلك الناصح، وصرخ به صرخة ذكَّرتني بما ترويه الحكايات عن صرخات أبي زيد الهلالي وعنترة بن شدَّاد، ناسياً كتاب الأدعية الذي في يده، ناطقاً بعبارات لا تليق، والمؤسف في هذا الموقف، أنَّ أفراد الفوج الآخرين تابعوا قائدهم في عنفه وقسوته، وقد بدا على وجوههم الاستعداد لخوض معركة «الكرامة» في ساحة الطواف عند أطهر بقعة على وجه الأرض. سبحان الله العظيم: أين أخلاق المسلم العابد؟ أين آثار لباس الإحرام الذي يدل على تجرُّد الإنسان من كل شيء يمتُّ إلى الكبرياء والعنجهية بصلة؟. «حملة التراحُم» كأنِّي بها قد أصبحت مطلباً مهمَّاً، وضرورة مُلِحَّة، فما أجدر رئاسة الحرمين الشريفين بالنظر فيها، وما أحرى رابطة العالم الإسلامي بتبنِّيهَا، وما أحوج المسلمين إليها حتى لا تصبح «الغثائيَّة» هي الصفة اللائقة بهذه الجموع الغفيرة التي تجتمع في هذه البقاع الطاهرة. إشارة وإلى الله ينتهي كل شيء جلَّ من حاكمٍ إليه المآبُ