كان السلف من الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين يُطلقون كلمة (لا أدري) على ما لا يعلمونه، ولا يجدون في ذلك حرجًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ: لَا عِلْمَ لِي بِهَا، فَلَمَّا أَدْبَرَ الرَّجُلُ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: « نِعْمَ مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ، سُئِلَ عَمَّا لَا يَعْلَمُ فَقَالَ: لَا عِلْمَ لِي بِهِ «. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «إن الذي يفتي الناس في كل ما يستفتي لمجنون». وقال الشعبي: «لا أدري نصف العلم». )وقال مالك بن أنس: سمعت ابن هرمز يقول: «ينبغي للعالم أن يُورِّثَ جلساءه مِن بعده لا أدري، حتى يكون أصلًا في أيديهم، فإذا سئل أحدهم عما لا يدري قال: لا أدري» وذكر الهيثم بن جميل قال: «شهدت مالك بن أنس سُئل عن ثمانٍ وأربعين مسألة، فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري». قال الأزهري: سُئل وهب بن منبه عن الرعد فقال: «الله أعلم»، ومثل هذا كثير يُروى عن الصحابة والتابعين ومَن بعدهم مِن علماء المسلمين. ) قال القرطبي: الواجب على من سُئل عن علم أن يقول إن لم يعلم: «الله أعلم، ولا أدري اقتداء بالملائكة والأنبياء والفضلاء من العلماء» يُشير إلى قوله تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32]. ) وكان كثيرٌ من العلماء الكبار إذا سئل أحدهم عن مسألة في العلم الذي له فيه الباع الطويل، ولم يحضره الجواب جاءته الأمانة العلمية ودفعته إلى أن يقول لسائله «لا أدري» غير مبالٍ بما يكون وراء كلمة «لا أدري» مِن أقوال الناس فيه، لأن مِن الناس من يَرى أن قول العالم لا أدري نقص عليه، غير أن العاقل الورع يَرى أنها فضيلة. ) وبعض الناس في هذا الزمن قد لا يُعرف له بلاء يذكر في تحصيل العلم ثم هو لا يتورع عن إطلاق الجواب في كل ما يسأل عنه، بل يتحاشى أن يقول في كلامه لا أدري أو لا أعلم ويظن أن هذا سيكون ذمًّا عليه أو تقليلًا من شأنه، وقد سَلَكَت بعض القنوات الفضائية في هذا مسلكًا خطيرًا وهو إطلاق الفتاوى المرتجلة على الهواء فتأتي صائبة حينًا، وخاطئةً أحيانًا، وخاصة إذا كانت من غير المختصين ولا المؤهلين. ) إن أمر الفتوى خطير جدًّا فقد حَرَّم الله على عباده القول عليه بلا علم لما فيه من المفاسد الخطيرة، ولما فيه من الظلم والتجرؤ على الله والافتراء عليه والاستطالة على عباده وتغيير دينه وشرعه، فهو أصل لكل تشريع باطل ومصدر لكل ابتداع في دين الله، حيث قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] وهذه الآية جمعت أصول المحرمات، فذكر سبحانه المحرمات مبتدءًا بما هو أدنى ثم ترقي إلى ما هو أشد وأعظم حرمة ثم ختمها بأعظمها وهو القول على الله بلا علم. لأن التبليغ عن الله يعتمد على العلم المبني على الدليل من الكتاب والسنة والفهم الصحيح وهذا لا يكون إلا لأهل العلم الراسخين فيه. والله ولي التوفيق. وكيل جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية