قبل أن تعرف البشرية النقود كانت تبيع وتشتري من بعضها الآخر عن طريق المقايضة وهي الوسيلة البدائية للتبادل التجاري التي يتم فيها تبادل السلعة بسلعة أخرى مع زيادة في الأولى إن كانت الثانية أثمن في القيمة والعكس بالعكس. انتهى هذا الأسلوب في المبايعات، لكن وعلى ما يبدو فقد استلطفته السياسة واستعارته ليصبح فيما بعد أحد أهم وسائلها في إتمام الصفقات في العلاقات الدولية لتحقيق مصالح خاصة وطنية. روسيا على سبيل المثال مارست منذ أن كان (اتحاداً سوفيتياً) تجارة المقايضة السياسية، فقد قايضت الولاياتالمتحدةالأمريكية وأوروبا الغربية وإسرائيل عدة مرات مقابل أن يتم السكوت على ستارها الحديدي، وسيطرة روسيا على دول أوروبا الشرقية والإبقاء على جدار برلين، ومنعها اليهود الروس من الهجرة إلى فلسطين واحتلالها لأفغانستان. وفي أيامنا هذه رأينا كيف قايضت روسيا الغرب على صربيا الأرثوذكسية فتخلت عنها بعد أن أيدتها مقابل تمددها في جمهوريات الاتحاد السيوفيتي سابقاً، وامتنعت روسيا عن التصويت لصالح قرار مجلس الأمن في حماية المدنيين الليبيين ودعمت حكومة القذافي، ثم ما لبثت أن قايضت حلف الناتو على نظام القذافي، وقد تكشف الأيام المقبلة الثمن الذي قبضته أو وعدت به ليصرح رئيسها مؤخراً أن القذافي فقد الشرعية وعليه الرحيل. القيادة السورية تغامر في رأيي إن هي عولت على الموقف الروسي في مجلس الأمن، فديدن السياسة الروسية الخارجية هو المقايضة، ولقد بشر بها (ميدفيديف) عندما صرح في قمة الثمانية في دوفين في فرنسا إن على الرئيس بشار الانتقال من الأقوال إلى الأفعال، وأخشى على سوريا من أن يتكرر فيها المشهد الليبي. أنا ممن يؤمنون بوجود مؤامرة غربية على العرب والمسلمين بدأت منذ تأليب العرب على الدولة العثمانية المسلمة، ثم تمزيق دولتهم العربية واستعمارها موزعة بين الدول الغربية، وزرع (إسرائيل) في قلب الشرق العربي رأس حرب للغرب للسيطرة السياسية والاقتصادية. لنتفق أن هذه المؤامرة تستهدف منذ مدة إسقاط الأنظمة العربية التي لها حدود مع إسرائيل والممانعة للتطبيع معها والاعتراف بها والتي لم يتبق منها سوى سوريا ولبنان بتأثير من (سوريا) التي خضعت للحصار الاقتصادي الغربي قبل الأحداث الحالية، ويكفي أن نتذكر قانون محاسبة سوريا الذي أصدره الكونجرس الأمريكي في عهد بوش، ولنفترض أن المؤامرة انتقلت من طور العمل الدبلوماسي والضغط الاقتصادي مستغلة أجواء (الربيع العربي) إلى التنفيذ العملي لإسقاط النظام في سوريا مستغلة فئات من الشعب السوري. لكن، أفلا يجدر بالقيادة السورية أن تسأل نفسها لماذا تجاوبت الجماهير السورية، ولنقل بعضهم في عدد من مدن وقرى سورية في وقتنا الحاضر مع تلك المؤامرة مع أنها تصدت لها ورفضتها وقاومتها سنين طويلة. الحكمة تقتضي الإجابة على هذا السؤال والبحث عن الأسباب التي جعلت مجموعات من الشعب السوري تتجاوب أو تتعاطف مع هذه المؤامرة القديمة الجديدة. أرى كمراقب محايد أن اجتثاث تلك الأسباب وهي معروفة للقاصي والداني سيكون كافياً للمحتجين السوريين للنأي بأنفسهم عن أن يكونوا وقود تلك المؤامرة وعصاها التي تضرب في الأرض السورية. إفشال المؤامرة لا يتم من خلال إراقة دماء من يتم التآمر على وطنهم وتوسيع دائرة الغضب في صفوفهم، وإنما بالاستجابة إلى مطالبهم متى ما كانت متوافقة مع الشرعية وحقوق الإنسان لسحب البساط من تحت أرجل المتآمرين وعملائهم المندسين. الصراع بين (قوة الحق) و(حق القوة) عرفته البشرية منذ قابيل وهابيل، فإذا اختارت حكومة ما في زمننا هذا (حق القوة)، فعليها أن ترتقب بوجل سلطان (قوة الحق). ادعوا الله معي أن يحمي الشام (الأرض المباركة) من أصدقائها قبل أعدائها.