بعد أن تسكعت بكل مكان أدركت بأني لن أشعر بالانتماء بأي مكان.. وبأن الدنيا بالفعل دار غربة.. لذا بدأت أحلل الأمر معتقداً أن الانتماء حالة من الرضا تجعلني أتجاوز سؤال الغاية إلى سؤال الكيفية.. فصرت أجد العزاء بحث عقلي على جلد الأشياء والتحقيق معها. في الطائرة الصغيرة كان المسافرون محشورين في مقاعدهم يتبادلون النظرات مجبرين.. فلا مساحة تكفي للهرب بالبصر.. الطفل الذي بجانبي كان ممسكاً بقطعة حلوى وببرتقالة باليد الثانية.. لا أدري لم أملت رأسي وبدأت أحاول عقد مقارنة ما.. كنت أنظر إلى البرتقالة.. أبحث عن تاريخ الصلاحية.. شيء ما داخلي كان يسخر مني.. شيء آخر كان يتابع المقارنة.. هناك حكمة يريد لي الله أن أعرفها. لا توجد بذرة في قطعة الحلوى حين أزرعها تخرج شجرة حلوى.. بل إنهم في علم الاقتصاد يعلمون المنتجين شيئاً يسمى (الرغبة بإعادة الشراء) وعليه يحددون حجم المنتج.. فلا يكون بالقدر الكافي المشبع للزبون.. ليضطر لشراء قطعة ثانية.. محاولة عمل المقارنة جعلني أستشعر الكرم الإلهي.. فالثمرة حين أنتهي منها أجد داخلها بذرة.. حين أبذرها تخرج لي شجرة لتعطيني المزيد من الثمار.. الأمر هنا يتعدى العجز البشري عن مجارات خلق الخالق مشيراً إلى تضاد النوايا أصلاً.. فجأة صحوت من تساؤلاتي على صوت أم الطفل وهي تقول لي: هل أنت جائع..؟ هل تريد قطعة حلوى..؟ أعدت ظهري للوراء وكأني أتأكد من وجود المقعد خلفي وقلت بخجل لا .. شكراً.. قالت على الفور بنبرة ودودة وهي تضع حقيبتها على حجرها: لا عليك لا تخجل لدي الكثير من الحلوى في الحقيبة.. أخبرتها بأني حقاً لست بجائع وبأني كنت فقط أفكر بشيء ما.. ولكنها لم تصدقني على أية حال وأعطتني قطعة حلوى.. بعدها تشجعت وأخبرتها بما كنت أفكر به.. فما كان منها إلا أن رمقتني بنظرة غريبة جعلتني أعاتب نفسي على إخباري لها.. بعدها أخرجت قلمي ودفتري ورحت أكتب.. في منتصف ارتكابي للحرف توقفت.. لأعيد المقارنة مرة ثانية.. لقد اختلف المنتج ولكن مع ذات المنتجان.. فبدل البرتقالة وقطعة الحلوى.. هنا الكلمة البشرية والكلمة الربانية.. فكما أن داخل الثمرة توجد بذرة تحوي (الشجرة) التي أنتجت الثمرة.. توجد الكلمة الربانية المثمرة التي تحوي بذرة حكمة حين تزرعها فيك ستنبت لك شجرة معرفية. حين كنت مميلاً رأسي أرتكب تفريق الأشياء أبحث عن المعنى.. كانت الطائرة ترتعش بنشوة هبوطها على المدرج.. قبل أن تذهب الأم وطفلها قالت لي: بما كنت تفكر قبل قليل؟ لم أكن أفكر.. إني جائع فقط هذه المرة.. لم تسمعني وأنا أقول في صدري.. بأنه جوع معرفي لا يشبع أبداً.. هكذا كنت أحدث نفسي حينها.. بأن أقول نصف الحقيقة فقط بصوت مسموع.