غادر المدينة وكأنه هارباً من سجن حدث ذلك عندما وصلته رسالة الشؤم، تلك التي أرسلها أبوه من القرية. كانت محدودة ومكثفة ومقتضبة:» سعيد.. أين أنت أيها الابن العاق؟.. ألا تريد أن تودع الجمل.. إن الجمل الذي كان صديقك الوحيد في هذه القرية يشارف على الهلاك..». لم تكن الرسالة سوى تلك الكلمات المتهدجة المذيلة بمفردة: -»أبوك» ..آه يا جملي الأشقر ترى كيف أنت؟ عندما اشتد هجوم الوساوس عليه كان قد وصل إلى بوابة القرية ولاشيء يرن في خياله سوى مفردات الرسالة التي وصلته من أبيه، ثم تراجيعها وتلاحق الصور بين عينية قال: - لعل أعضاءه -الآن- امتدت وأطرافه استسلمت وأنفاسه تجمدت.. لا.. لعله الآن انتفض وراح يجري في المداءات الواسعة. وأخيراً ها أنت يا جملي لقد جئت إليك لأعتذر عن كل ما بدر مني.. أعرف إنني كنت قاسياً عليك ولكنها الحياة يا صديقي.. أنا أيضاً كانت الحياة تقسو على.. الحياة كانت تسحقُنا معاً بل جميعاً وأنت أيها الحبيب تعرف هذه الدنيا إنها لا تفرق بين إنسان أو جمل كلنا عندها كائنات حية قابلة للهزيمة.. وكلنا فيها نتعرض للقمع والاضطهاد والقسوة.. أرجوك يا جملي لاتمت. أحس سعيد وكأنه يسمع صوتاً ما.. صوتاً يتعرج من حنجرة الجمل ومفاده: أنت لم تكن تحس بي لقد كنت انتحر ألماً وأنت لا تدري.. لا تسمع.. لا تفهم. ما أسرع الردود الوجيعة التي انطلقت من شفاه سعيد.. قال: - لا أنا كنت أحبك أكثر لكن الحياة قاسية كانت تفعل بي ما تفعله بك.. وأردف مصعداً نبرات صوته: - أرجوك أن تنسى كل شيء يا جملي.. قل لي: ما رأيك أن نفتح صفحة جديدة انطلقت الحشرجات من حنجرة الجمل وسعيد يترجم دلالاتها كأنه يقول - لا لا لا. اخرج سعيد سيجارة ليطفأ من خلالها أوجاعه لكنه ارتأى أن يصغي للصوت القادم من أحشاء الجمل: - سعيد يمكنني أن أغفر لك كل شيء إلا ما حدث لي في تلك اليوم عندما ثقبت مشفري ووضعت فيه حبلاً ربطته إلى سرج حمارك ولم تكتف بذلك فقد دخلت بنا السوق وشاهد العالم كله جملك العملاق الأشقر الفتي مربوط إلى سرج حمارك.. حمارك الصغير الحقير.