أمير الأحساء السابق رحمه الله محمد بن فهد بن عبد الله آل جلوي آل سعود وُلد عام 1343ه واستشهد والده عام 1347 ه. نشأ يتيماً فرباه جده الأمير عبد الله - رحمه الله - ثم اعتنى به عمه الأمير الشهم سعود بن عبد الله بن جلوي وزوجه ابنته أم فهد وعبد العزيز. والذي يتربى بين هذين الرجلين فكيف يكون عوده، لقد شبَّ على تحمل المسؤولية، نشأ على الخشونة وشظف العيش لم يتمتع بدينار ولا درهم، فقد كان عف اليد كما كان اللذان ربياه، نشأ في وسط المجتمع الأحسائي ليس بعيداً عن الناس من خلال ملازمته لعمه الأمير سعود، وعرف المجتمع معرفة تامة وعرف كل ما يدور في المجتمع فعيونه ثقات الناس وأشرافهم، جلس للناس وعايشهم واختلط بهم. بقوته وهيبته وتواضعه ولين جانبه، تابع شؤون المجتمع بنفسه وحرر معاملاته بيده وكتب عليها بيده، بعد أن درسها دراسة فاحصة معتمداً على الله ثم على فهمه وفراسته، يراجع كل معاملة تمر عليه مراجعة دقيقة بذهن ثاقب واهتم بالأحكام الشرعية والصكوك الصادرة في القصاص وغيرها، فدرسها دراسة فاحصة واستدرك على الحكم واعترض على حكم وردَّ معاملة تعتبر منتهية، ويدعوني - رحمه الله - فآتيه وأدخل عليه وهو يكتب على ركبته لا على المكتب فيطلعني على اعتراضاته، فأعجب كل العجب على إلمامه ودقة فهمه وصواب رأيه وتجد اعتراضاته استجابة ممن لهم شأن، وفي حين أنه يقرأ المعاملات بدقة متناهية، تجده يتجاذب أطراف الحديث مع أفراد من جميع طبقات المجتمع، فمكتبه مفتوح يستمع للشكاوى ويتحمل ارتفاع أصوات المظلومين وأصحاب الحاجة ينصت حتى ينتهوا لا تأخذه في الله لومة لائم، بينما هو يتحدث بهدوء مبتسماً وإذا هو الأسد الهائج حين يكون الخطأ من قوم متسلطين أو مستهترين بحياة الناس أو بالنظام، يقف أمام الظلمة فيردهم وربما أمر بسجنهم حسب ما يراه ثم يعود إلى قراءة المعاملات وإلى محادثة الجالسين. يعرف الأحسائيين بيتاً بيتاً ويعرف غيرهم، لا يغتر بالمظاهر ولا بالبهرج ولا بالمداحين، يعرف المحتالين ويعرف الطماعين ويعرف الذين يأكلون الدنيا بالدين لا يخدع، يباسط الجلساء ويمازحهم مع حفظه لهيبته والناس يحترمون فيه تواضعه الجم، ليس له موكب ولا يحب المواكب بل ينتقل بسيارته ويدخل السوق ويرى حال الناس في السوق ويذهب إلى البر وإلى البحر ويقف بنفسه على أحوال الناس، فيه خصال كثيرة من عمه الأمير سعود، يأتيه شخصيات إن صح التعبير يشار إليها بالبنان، فإذا خرجوا قال لي - رحمه الله - هؤلاء محتالون وحرامية ففراسته صادقة. يرن جرس الهاتف فيرفع السماعة ويقول انتظر فيخرج الدليل ويجيب، فأسأله يا سمو الأمير هذه مهمة السنترال، فيجيب بكل أريحية هذا يبغي رقم كذا ولكنه اتصل بالخطأ فأعطيناه الرقم وما نقص منا شيء. يعرف للعلماء قدرهم لأنه عالم وأديب ومؤرخ وناقد تاريخي واجتماعي. يزور الناس ويتصل بهم هاتفياً، مائدته ممدودة كل يوم بعد صلاة الظهر ولغرفة الطعام باب خلفي يدخل منه بعض الفقراء ممن أخنى عليهم الدهر وممن يصدق عليهم قوله ارحموا عزيز قوم ذل. وعلى المائدة كل خير. أمَّا هو فإنه يكتفي بكأس لبن إنما يجلس للحديث والمباسطة أمَّا يوم الجمعة فالمائدة تكون أكبر وأوسع، حيث يحضرها المدير والأمير والحضري والبدوي والمستخدم، فهو يألف ويؤلف يحادث كل الجالسين دون تمييز ويلاطف الضعفاء والفقراء. كنت في سوق القيصيرية بعد صلاة العصر في رمضان وكان معي الابن عبد المجيد والابن عبد الرحمن وكان عبد الرحمن آنذاك صغيراً فقال لي عبد الرحمن هذا الأمير خلفنا في السوق. فقلت له: لا لا. وإذا بي أفاجأ بالأمير يحمل عبد الرحمن ويقول لي لا تكذبه أنا الأمير. بعدها انغرس حب أولادي لهذا الأمير، فانظر إلى هذه العقلية التي تزرع حبه في عقول وقلوب الأطفال. يأتي الناس لزيارته من علماء وغيرهم فلا يذهبون إلاَّ وقد دعاهم إلى وليمة. يحب التاريخ ويحب الآثار. كنا في مطار الأحساء ننتظر صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز النائب الثاني آنذاك، فدخل الأمير محمد بن جلوي وسلم وجلس ثم التفت إليَّ ما هي أخبارك وأخبار التاريخ ولماذا أنت بعيد؟ فقلت سلمك الله الآن سوف يأتي الأمراء نترك المكان لهم وكذلك شيخنا الشيخ عبد العزيز بن يحيى نترك له مكانهن فقال: إذا دخلوا غيّرْ محلك. قلت له: وإذا غيرته أين أذهب فلن أجد لي مكاناً إذاً مكاني هذا أفضل. الشيء الغريب أنَّ الأمير محمد بن فهد قام وجلس بجانبي وأخذ يتحدث عن قضايا مرَّت عليه. هذا التواضع هو الذي رفعه. فلما جاء صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن نايف نائب أمير المنطقة الشرقية آنذاك قال له: لماذا أنت بعيد فأجاب عندي كلمة راس مع ابن إسماعيل. كما قلت: كان يناقش الصكوك الصادرة في الحدود والقصاص. في إحدى الجلسات قلت: إنَّ والدي يقول بأنك تربيت على يد عمك الأمير سعود فرد عليَّ - رحمه الله - أنا يتيم وجدي عبد الله، إذا قبّلت رأسه بين حين وآخر ربط في غترتي ربع ريال، أمَّا عمي سعود فلا أذكر أنه أعطاني شيئاً، فقلت له ولكنه هو - رحمه الله - ما أخذ شيئاً لنفسه بل مات وعليه ديون سددها عنه الملك فيصل - رحمه الله - وما كان أحد يدري إلاَّ ابن تريكي، عندها قال لي صدقت ومسح دمعته حتى لا أراها، عندها استأذنت وخرجت حزيناً، قلت في نفسي ليتني ما أثرت هذا الموضوع ولم أشته الغداء ذلك اليوم. وبعد أيام: أرسل لي مجموعة من الكتب ودعاني وأخذ يمازحني ويقول: ووالدك ماذا حصل قلت: والدي يكفيه شرفاً ثقة عمك فيه قال: نعم فكم من شخص كاد أن يظلم وكم من شخص سُعي به من قبل أناس يعدون الثقات، ولكن والدك يبين لعمي أنَّ الطاعنين والساعين ليسوا ثقات وأنَّ من سعي به فإنه مظلوم وبريء. توفي - رحمه الله - يوم الأربعاء 17-2-1417ه ودفن في مقبرة العود في الرياض، لأنه كان في المستشفى في الرياض فمات هناك ودفن هناك، ولكن حبه مغروس في قلوب الأحسائيين - رحمه الله وغفر له وجمعنا وإياه بعد عمر طويل وعمل صالح، إنه ولي ذلك والقادر عليه.