شهدت بلاد العرضيتين في الماضي البعيد حضارة قديمة لم يبق منها سوى أطلال وشواهد دالة على قدم تلك الحضارة وكتابات ونقوش متفرقة في بعض أجزاء هنا وهناك، وهذه النقوش التي مررنا بها في كثير من المواضع في بلاد العرضيتين كانت خير شاهد على عراقة تلك المنطقة، ومما أرشدنا إلى ضربها في القدم اللغة التي كتبت بها عندما قام بعض المؤرخين بالوقوف عليها وتحقيقها، وقد كانت تقطن العرضيتين أمم زالت وبادت وحل محلها أقوام آخرون وهذه من سنن الله في الأرض، وعندما زرتها آخر مرة رأيت في موضع بوادي قنونا أنموذجا لتلك النقوش فوقفت على ما كتب على أحد الصخور هناك وكانت لغة الكتابة ضاربة في القدم فقد اتخذ من ذلك الجبل صفحة من أعلاه حتى أسفله وعند ترجمة الجزء الأخير منه كان مفاده (هنا وصل قوم تبع). أما في العصور المتأخرة فقد استطاع العثمانيون في أول موضع قدم لهم هناك في جنوب جزيرة العرب أن يطردوا البرتغاليين وذلك في بداية القرن العاشر في عهد السلطان العثماني سليمان القانوني، وبعد أكثر مائتي عام تمكن الأتراك من السيطرة على منطقة العرضيتين وما حولها من أبهاجنوباً وحتى غامد وزهران شمالاً واستمروا كذلك قرابة نصف قرن من عام 1289 حتى عام 1337ه ولم نجد للعثمانيين أعمالاً إيجابية واضحة تذكر في منطقة العرضيتين على الرغم من استمرار حكمهم لتلك البلاد قرابة خمسة عقود إلا أنهم كانوا يقومون بتعيين وال في أبها أو في القنفذة أو في مركز المبنى بالعرضية الشمالية كما مربنا في مقال سابق ليرجع مشايخها إليه لجباية الزكاة فقط، مع ترك جميع أجزاء العرضيتين تغرق في الفتن والصراعات القبلية، يقول سليمان شفيق المتصرف الذي كانت بلاد العرضية تتبع له حينما ترجم للسياسة التي كانت تسلكها الدولة العثمانية في المنطقة عموماً وبلاد العرضيتين على نحو خاص (في الواقع أن الدولة لم تصنع شيئاً غير تحصيل الزكاة من الأهالي بين حين وآخر ولم تفكر قط في إيجاد أسباب العمران لإحياء هذه الجهات، ولم تتذرع بشيء من ورائه نفع للأهالي، وليس لها برنامج معين يسير عليه رجالها وموظفوها الذين يأتون إلى هذه البلاد وهم لم يستطيعوا أن يفهموا الأمور التي يحتاج الشعب إليها ولم يدرسوا أسباب ثورة الأهالي وتمردهم على الدولة، ولم يستطيعوا أن يقروا الأمن، بل تركوا الناس وشأنهم يحارب بعضهم بعضاً والحكومة واقفة تتفرج عليهم، وكانت وظيفتها مقصورة على حراسة نفسها في الأماكن التي استولت عليها وأقامت فيها، إن الدولة العثمانية التي احتلت المنطقة منذ أربعين عاماً اكتفت بأن اتخذت لنفسها بضعة مراكز عسكرية، وكانت صلتها بالأهالي مقصورة على قيامها ببعض الحركات العسكرية بين حين وآخر لجباية الزكاة، أما اختلافات الأهالي فيما بينهم فكانت الحكومة في معزل عنها، ويا للأسف فقد كان الناس يرون أنهم لا حكومة لهم، وأنهم مسلوبو الراحة والأمن العام وهم ينتظرون الفرج بعد ظهور رجل مصلح يتولى فيهم أمر الحكم، وكأنه هنا يشير إلى ابن سعود لكون جلالة الإمام الراحل الملك عبدالعزيز في هذا التاريخ قد ظهر، وقد تنبأ سليمان الكمالي في موضع آخر من مذكراته أن ابن سعود سوف يتمكن في يوم ما من لم شتات هذه البلاد). وقد أورد ابن جريس في كتابه عن المنطقة خلال خمسة قرون أن العرضيتين لكونها منطقة داخلية لم تكن كغيرها من البلدان تحت التبعية الحجازية أو اليمنية وإنما كانت تعيش تحت سيطرة قبائلها وشيوخ تلك البلاد هم أصحاب السلطة المطلقة في جميع شؤونها. حتى وان اتصلوا ببعض القوى السياسية في الحجاز أو اليمن وأضاف أن تلك العلاقة لا تعدوكونها شكلية فقط، وإذا تتبعنا الحكومات التي جاءت فيما بعد نجد أن من ينوي ضم العرضيتين إليه يخطب ود شيوخها أولاً ثم يراسلهم فإن كانت علاقته جيدة بأولئك المشايخ استطاع أن يضمن ولاء تلك القبائل ويضمها تحت نفوذه وهذا كان السائد في بلاد العرضيتين حتى قبيل الدولة السعودية. أما الدعوة السلفية فقد وصلت إلى جنوب الجزيرة العربية في مطلع القرن الثالث عشر الهجري التاسع عشر الميلادي وبرز أمراء آل المتحمي الذين كان لهم السبق في الذهاب إلى الدرعية ومبايعة قادة الدولة السلفية هناك وعند عودتهم إلى بلاد عسير مدوا نفوذهم إلى العرضيتين وبعض جهات القنفذة ووقع بينهم وبين الجيوش المصرية عدة وقعات استطاع بعدها عبدالوهاب بن عامر المتحمي احد أمراء الدولة السعودية الأولى هناك أن يضم العرضيتين تحت حكم الإمام سعود بن عبدالعزيز. ومما يعزز ما ذهبت إليه ما ورد لدى العجيلي وابن جريس وبعض المصادر المعاصرة أن عبدالوهاب بن عامر المتحمي في سنة 1218ه خرج من بلاد عسير ومعه 5000 آلاف مقاتل متجهاً إلى مكة وذلك نجدة للإمام سعود بن عبدالعزيز وكانت طريقه عبر تهامة حتى وصل إلى بلاد العرضيتين التي قاومت وحدث بينه وبين عثمان بن أبي بكر الأمير التي كانت العرضيتين ونواحيها تابعة له عدة مناوشات في بادئ الأمر إلا أن عثمان رفض الدخول تحت حكم الإمام سعود مما دفع عبدالوهاب لمحاربته وبعد حصاره له فر عثمان إلى جزيرة في البحر من جهات حلي ولحق به رجال عبدالوهاب حتى استسلم ودخل في طاعة الدولة السعودية الأولى، وقد أحصى بعض المؤرخين تلك الغزوات فوجدوها ثلاث عشرة غزوة استمرت سبعين ليلة. (وبهذا نود القول أنا وقفنا على أن بلاد العرضيتين انضمت للدولة السعودية الأولى في عام 1218ه)، بعد ذلك وقعت العرضية بين مد وجزر فبعد أن استمرت تحت نفوذ المتاحمة من عبدالوهاب بن عامر ثم جاء خلفاً له طامي بن شعيب يقول بوركهارت أن هذه البلاد كانت تحت نفوذ طامي من عام 1224 حتى عام 1249ه- 1809-1813م إلا أن ذلك لم يدم طويلاً. وبعد زوال إمارة المتاحمة أصبحت بلاد العرضيتين تتأرجح على حسب القوى المسيطرة متذبذبة في تبعيتها للقوى التي تحيط بها جنوباً وشمالاً، فأحياناً تدخل تحت حوزة الأشراف في الحجاز والدولة العثمانية وأحياناً أخرى كانت تنضم لسلطة حكام عسير على حسب النفوذ والقوة وقد أكدت بعض المصادر والوثائق التي بين أيدينا أن العرضيتين انضمت ل سعيد بن مسلط وظلت طوال عهده تابعة لعسير واستمرت كذلك في عهد علي بن مجثل. هذا من جانب ومن جانب آخر وقبل كتابة هذا السطور قمت بالبحث في بلاد القنفذة عن وثائق لأدعم بها هذا المقال، ولعل الدارسين ممن سيأتون بعدنا يجدون فيها الفائدة وهذه الوثائق في مضمونها تتحدث عن الحياة الاجتماعية في بلاد العرضيتين في منتصف القرن الماضي وفي زمن الملك عبدالعزيز -رحمه الله- وعددها قرابة الثلاثين وثيقة نورد منها هنا وثيقتين لبيانات وأسماء أوائل الموظفين في العرضيتين ومقدار ما يتقاضاه كل موظف من راتب بحسب ما ورد في إحداها وقد كتبت بتاريخ شعبان عام 1360ه وهي تضم أسماء بعض مأموري رسوم أسواق العرضيتين فيقول كاتب هذا النص «أما العاملون في رسوم أسواق العرضية الشامية فهم حسين عبدالواحد مأموراً براتب 397.50 قرشاً وثلاثة حراس آخرون هم : أبو بكر أحمد، واحمد زيلعي، وزيد البركاتي براتب 109.50 قرشاً شهرياً لكل واحد، والوثيقة الأخرى من هذا الملحق مؤرخة في 29-12-1359ه وتشتمل على أسماء مشايخ وعرايف العرضيتين وما يدفع لهم من رواتب شهرية على النحو التالي: 1 - أحمد بن بيشي شيخ قبيلة بني رزق ثريبان، وراتبه 328 قرشاً ويتبعه في هذه الوثيقة سبعة عرائف هم، محمد بن موسى، وموسى بن حسين، عبدالرحمن بن معيض، ومعيض بن عبدالله، وهادي بن علي، وجابر، وأحمد، وكان يصرف لكل واحد منهم 109.50 قرشاً». 2 - علي بن عبدالله طيب، شيخ شمران، ويتبعه في الوثيقة التي بين أيدينا أربعة عرفاء هم: حسن بن احمد، وابراهيم بن منسن، وصهبان بن عبدالله، وبلغيث بن حمدان بن احمد. 3 - خضران بن جابر شيخ قبيلة بالعريان، وراتبه أيضاً 328 قرشاً ويتبعه سبعة عرائف هم: علي بن يحيى، ورافع بن عبدالله، وسعد بن ضيف الله، وسعيد بن سعد، وعائض بن عباس، وبركات بن حسن، وسالم بن مصلح، وراتب كل عريف 109.50قرشاً. 4 - سعد بن دخيل شيخ بني بحير، ويتبعه أربعة عرائف هم: علي بن زرعة، ومحاي بن عبدالله، والفحسن بن رافع، ودخيل بن عثمان. 5 - سعد بن ضيف الله، شيخ بني المنتشر، ويتبعه أربعة عرائف هم مهشبل، وسعد بن زين بن محمد، وشلوان بن صميد، ومعيض. 6 - منصور الهمَّام شيخ بني سهيم، ويتبعه خمسة عرائف هم : عبدالخالق بن حجر، وعلي بن عطية، وسعيد بن بركات، وحامد بن احمد، واحمد بن مطر. وقد قمت بأرشفة هذه الوثائق والإشارة إلى موضوع كل وثيقة ثم أوردت تاريخها الذي كتبت فيه. [email protected]