ما زالت ولا تزال جموع الراحلين تسير إلى أرماسهم ومضاجعهم إلى أن ينفد البشر كيف البقاء وباب الموت منفتح وليس يغلق حتى ينفد البشر! فكل يوم نودع فيه غادياً ورائحاً من الأحبة ومن رجالات هذا الوطن المخلصين الذين تركوا في نفوسنا ونفوس أحبتهم صافي ودهم وحسن ذكرهم، مع ما نعانيه من وحشة فراقهم وموت خيارهم من أهل وصحب، فحبهم باق لا ينسى أبد الليالي، فبينما كنت أسرح طرفي وأجول به بين صفحات صحيفة الجزيرة الغراء بعد صلاة فجر يوم الثلاثاء 10-4-1432ه إذ فوجئت بنبأ رحيل أستاذ فاضل قد انقطعت أخباره عنا أزمانا طوالا نظرا لتراكم مشاغل الحياة بين الطرفين وبعد المسافة نسبيا، مع احتفاظي بوده وبذكره الطيب، إنه الأستاذ الكريم عبدالرحمن بن عبدالله العميري التميمي الذي ولد بمدينة الدلم وترعرع فيها وفي جنباتها بين أحضان والديه وأخوته وبعد ما قرأ القرآن الكريم وحفظ أجزاء منه انتظم في الدراسة النظامية، ونال الشهادة بمعهد المعلمين بالدلم بتفوق، ويعتبر من الدفعة الأولى، ثم طمحت نفسه فواصل الدراسة بجامعة الملك سعود -يرحمه الله- حتى نال البكالوريوس في الرياضيات والعلوم، ثم عين مدرساً، فمديراً لمدرسة ابن القيم الابتدائية بضواحي الدلم، وظل بها فترة من الزمن ثم انتقل إلى الخرج مديرا لمدرسة ابتدائية بحي الراشدية، واستمر بها حتى تقاعد تاركا أثرا طيبا وذكرا حسنا، وقد سعدت بمعرفته أثناء حضوري رئيساً للجان الاختبارات -آنذاك- بمبنى مدرسة ابن عباس بالدلم وبمدرسة الهياثم وذلك في أوائل التسعينيات، ويعتبر الأستاذ عبدالرحمن -أبو فهد- من خيرة الأعضاء المخلصين في أداء أعمالهم المنوطة بكل أمانة وتعاون، وقد عرض علينا تناول طعام العشاء في منزله كما هي عادة أهالي الدلم وما حولها الذين غمرونا بأخلاقهم وبكرمهم الحاتمي، وحينما شاهدت بعض التحف والمقتنيات بمجلسه -يرحمه الله- استهواني منظر قارورة زجاجية بداخلها سلم خشبي أدخل بكل مهارة وإتقان يصعب على الكثير عمل مثله فطلبت منه أخذ صورة لها فما كان منه إلا أن قدمها لي هدية مؤكدا قبولها -ولازلت محتفظاً بها ذكرى خالدة-، وعند عودتي إلى حريملاء عرضتها على زملائي بالمدرسة، فأعجبوا بمهارة ودقة وضعه بداخلها، فقال الأستاذ ناصر بن محمد المشعل وكيل المدرسة سأحاول أن أعمل عملاً مماثلا لها أدق، وعمل واحدة كانت سببا في فوز مدرستنا في معرض الفنون والأشغال اليدوية المقام بثانوية العارض بالرياض على شرف الدكتور عبدالعزيز بن عبدالله الخويطر وزير المعارف -آنذاك- وبحضور مدير التعليم الزميل الراحل الدكتور حمد السلوم -يرحمه الله- فنالت إعجاب الوزير، فقلت الأستاذ ناصر يستحق الجائزة فقال وهو يبتسم هذا ساحر يستحق السجن! فأبو محمد -متعه الله بالصحة والعافية- سريع البديهة حلو الطرفة، والحقيقة أن الأستاذ عبدالرحمن يعتبر من الرعيل الأول المربين الأفاضل فهو سمح المحيا هادئ الطبع طيب المعشر ومحبوبا لدى زملائه وأبنائه الطلبة: وجه عليه من الحياء سكينة ومحبة تجري مع الأنفاس وإذا أحب الله يوما عبده ألقى عليه محبة في الناس وقد طوح بي الخيال إلى تلك الأيام والليالي التي قضيناها في ربوع الخرج وفي مدينة الدلم وما جاورها بصحبة كوكبة من أولئك الأساتذة، ولفيف من المواطنين الأخيار، وما يتخلل تلك الجلسات والمسامرات الأدبية والشعرية من تبادل الطرائف والنكات الخفيفة على قلوبنا فإنه يحلو ويعذب السمر بحضورهم: يا حبذا أزمُنٌ في ظلهم سلفت ما كان أقصرها عمرا وأحلاها أوقات أنس قضيناها فما ذكرت إلا وقطع قلب الصب ذكراها تغمده الله بواسع رحمته وألهم ذويه وأبناءه وبناته وأخوته وعقيلتيه ومحبيه الصبر والسلوان. عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخريف فاكس 015260802 - حريملاء