في قديم الزمان وسالف العصر والأوان نقرأ في كتب المتقدمين، ثم نقرأ في كتب المتأخرين، ثم أمد الله لنا العمر لنقرأ في كتب الحاضرين. على مر هذا الزمن الموغل في السخرية والتناقض، وعلى مر هذا الزمن الذي يقدم لنا النماذج التي تتكرر على مدى العصور والدهور وكأن هذا الكائن البشري لا يمكن له أن يعتبر ولا يمكن له أن يتعظ بما يقرؤه أو يسمعه فيكرر الأخطاء تلو الأخطاء، أقصد هذا المواطن البسيط الذي كأنما يعلي من قدر حاكمه، ويعلي من قدر سيده ويعلي من قدر من بيده الحل والعقد، هكذا وعلى مدى الوقت كنا نرفع الأكف والدعاء يخرج من الحلق صادقا أو كاذبا.. هذا شأن الدعاء.. لكن هذا الدعاء على مختلف حالة الصدق أو الادعاء كان يسير لمصلحة بقاء الحاكم. الثوري يدعو لقائد الثورة على مدى مئات السنين، والديني يدعو لبقاء رجل الدين على الرغم من تناقضه مع جوهر الدين لبقائه واستمراره، ثم وفي لحظة من تاريخ نعيش أيامه ولياليه ليبزغ لنا رجل في تونس التي لم تعد خضراء.. يعبر الشوارع باحثا عن لقمة العيش من فوق عربته التي لوحتها الشمس، وأكل من أطرافها البرد بدل ألوانها الزاهية التي عادت إلى لون الخشب الذي غيره الماء فإذا بها شجر بلا أوراق، وإذا بهذه البضاعة تفسد يوما بعد يوم أصبحت تجارة بائرة لم تعد تكفي - البوعزيزي - طعاما لبيته ولا ماء وحليبا لأطفاله، حاول الهرب من قدره إلى قدر آخر.. صاح في كل الطرقات على بقايا الخضار التي تحملها عربته المنهكة، كان يعبر أمام المحلات الفارهة، المترعة بالخضار والفواكه وشتى الحلويات، والآخرون يمرقون أمام عربته المليئة بالحزن واللوعة والذكريات ورغبة مجهضة لأن يقبض القليل من النقود المعدنية تعود عليه بالخبز الدافئ لبيته ولأمه العجوز.. العابرون الذين يطلبون الدفء.. يدخلون تلك المحلات الفارهة يتركونه أمام الباب يموت من البرد والجوع والذل، أيموت ؟ لكن هذا الهاجس الذي راوده، أخذ يملأ عليه المكان ماذا لو جعلت مصدر رزقي وقوداً، كان الهاجس مخيفاً في بادئ الأمر.. حين أخذ يفكك أجزاء عربته، خشبة خشبة نحى تلك العجلات جانباً.. حين أصبحت كومة من خشب مبتل انتظر نهاراً بكامله حتى يجف الخشب.. حين نزغت شمس اليوم التالي ولازال يأمل أن يشتري منه أحدهم حتى لو بقية من ذلك الخضار التي أصبحت فوق الأرض لكي يعود إلى منزله لكن شيئاً من ذلك لم يحدث. فجأة ضحك بصوت عال، تجمهر عليه قليل من البشر، لكن ضحكه ما لبث أن أخافهم. وحين انبثق منهم هذا الخوف المخبوء ارتفعت ضحكته وأصبح في دائرة ضيقة لكنهم كانوا يأخذون لحظة بلحظة في الابتعاد عنه.. أصبحت الدائرة واسعة ولم يبق إلا هو وهذا الخشب المتراكم. قرر أن يشتعل ويشعل تلك الدائرة. البوعزيزي كان ولمدة موغلة في الزمن والذاكرة (إمعة) وهي في الحقيقة كلمة مخاتلة كما هي اللغة التي تتسع لتضيق وتضيق لتتسع، فهي في حقيقتها (إن معه) لكن البوعزيزي الذي لم يكن حجراً في غدير يمنح الماء رقصة الدوائر المتكررة لكنه أطلق مصطلحاً جديداً سماه (إن عليه) لم تكن دوائر الحجر في الماء بل أصبحت دوائر من نار تحرق الجهل والتخلف وتضيء الشعلة في قلوب الشباب الذين يعشقون المستقبل ويحبون الوصول والانعتاق، ويكرهون (الإمعة) بمعناها القديم ويكرهون (إن معه ) بمعناها الجديد. وسلامتكم.