يبدو أن مسلسل الحرق وجد رواجًا بين بعض المواطنين العرب، حيث سجلت محاولات انتحار يائسة تعدت أصابع اليدين، بعد أن حرق البوعزيزي نفسه في سيدي بوزيد التونسية. ورغم أنها محاولات جادة بعضها أودى بحياة فاعليها، إلا أنها لم تكن لها صدى يُذكر سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي، ربما لأن ثقافة الحرق تختلف من بلد إلى آخر، أو أن الأسباب تختلف، أو أن الظروف تختلف، أو أن نوعية البشر تختلف، أو أن شدة الجوع والعوز والفقر تختلف. الاختلافات كثيرة، ولكن المؤكد أنها تؤدي جميعها إلى حقيقة واحدة، فالمنتحرون بلا استثناء أناس تعرضوا للقهر. فالبوعزيزي لم يكن يحلم بفيلا فاخرة في أجمل شواطئ الدنيا، أو سيارة فارهة لا يعرف كيف ينطق اسمها، أو أرصدة تنأى بحملها البنوك.. لا.. البوعزيزي كانت أمنيته أبسط من ذلك بكثير، فهو يرغب فقط في أن يظل على قيد الحياة.. نعم تلك هي أمنيته، أمنية متواضعة إلى أبعد الحدود، بعدما قضت البطالة على طموحاته، فأخذ يدفع بيديه عربة خضار وجد فيها سبيلًا للعيش، لكنهم بخلوا عليه حتى بمجرد البقاء على قيد الحياة، ولم يسلم من أذاهم، فحاربوه وقهروه وسلبوا عربته، ومنعوه أسباب الرزق، فأبى أن يموت جوعًا، في بلد يرفل فيه كبراؤه بكل المتع والنعم، ولم يستسلم للقهر، وبكى طويلًا على أطلال أحلامه، ثم فضل أن يموت محروقًا على أن يعيش مقهورًا. أما باقي المشاركين في مسلسل الحرق -رغم تشابههم مع البوعزيزي- كانت طلباتهم أكثر رفاهية!، فمنهم من يطالب بحصته في الخبز، وآخر يبحث عن شقة ليواري فيها جسده وزوجته، وثالث يتمنى تسديد ديونه بعدما طار النوم من عينيه، ورابع يتعرض لقمع رؤسائه في عمله ووأد محاولته في تحسين وضعه، وخامس لتأخر صرف معاشه الذي يتقاضاه ليسد به رمق أولاده وبناته، وغيرهم.. وغيرهم الكثير من «الكومبارسات» الذين لم يشاركوا في مسلسل الحرق، إما خوفًا من سوء الخاتمة، أو جُبنًا من الفعل، أو اكتفاءً بترديد حسبنا الله ونعم الوكيل. حسام فوزي - جدة