لا أدري لماذا حضرت صورته في ذهني منذ أسابيع حضوراً مذهلاً؟.. عجباً لهذه الذاكرة البشرية التي تستحضر صوراً قديمة جداً، وتعرضها على صاحبها عرضاً مباشراً حيّاً كما تعرض الشاشات أحداث هذا العالم المضطرب. سبحان الله العظيم.. إن صورة الأستاذ سامي تظهر أمامي هذه الأيام بإلحاح شديد لا أستطيع مقاومته؛ أراه ببنطاله الأغبر ومعطفه البني الثقيل، ونظرات عينيه الحادَّتين، وحذائه الأسود الغليظ الذي يشبه أحذية عمَّال البناء الملطخة ب»خَلطَةِ» الإسمنت. نعم.. إنه الأستاذ سامي بشحمه ولحمه، وطوله وعرضه، وملامحه الجامدة، ووجه النحاسي الذي يشبه وجوه التماثيل النحاسية المنصوبة على رؤوس الناس في بعض البلاد العربية. سبحان الله العظيم الذي أودع في ذاكرة الإنسان، وعقله الباطن هذه القدرة الهائلة على استعادة الصورة القديمة بأدق تفاصيلها، وأصغر جزئياتها في الوقت الذي يظن فيه الإنسان أنه قد نسي كل شيء. الأستاذ سامي.. من هو هذا الأستاذ؟ ولماذا تستعيد الذاكرة صورة القديمة بهذا الوضوح العجيب؟. إنه مدرس الرياضيات الذي درَّسنا مادة «الحساب» في السنة السادسة الابتدائية، جاء إلى القرية من إحدى الدول العربية ليفتح لنا صفحات في الذاكرة تستعصي على النسيان. أستاذٌ، طويل القامة عريض المنكبين، تتشكل بين عينيه عُقدة لا تكاد تنفك أبداً، حتى حينما يبتسم -وقلما يبتسم- تظل تلك العقدة بارزة بين عينيه المحمرَّتين؛ وحتى تكون صورته واضحة لكم، فإن ابتسامته الغاضبة لا تظهر أبداً للتلاميذ الذين كانوا يرتجفون أمامه كالعصافير التي بللها القطر، وإنما تظهر لمدير المدرسة، ووكيله، والمراقب، وزملائه المدرسين أحياناً، ولأهل القرية الذين كانوا يحترمونه لأنه أستاذ. كنا -على صغر أعمارنا- نشعر بأن الأستاذ سامي مخادع من الطراز الممتاز، فقد كان يتظاهر بالعطف على الطلاب أمام إدارة المدرسة، وأمام جماعة القرية، وما زلت أذكر كلامه المعسول أمام عريفة القرية وكبار رجالها، وقد شكونا إليهم ما نلاقي منه، حيث كان يقول: هؤلاء أبنائي، والله أنهم أبنائي، هؤلاء زهور الحياة، وكنا واقفين معهم، فمد يده إلى أقربنا إليه، ومسح على رأسه قائلاً: إني أحبهم، وأعطف عليهم، ولا أشعر بالسعادة إلا حينما أراهم، وحينما قلت -بصدق الطفولة وبراءتها-: أنت يا أستاذ تكذب على الجماعة، أنت تكرهنا، تضع الأقلام بين أصابعنا وتضغط عليها حتى تكاد تخرج أرواحنا، تجمعنا في زاوية من الفصل وتقول بعينين يقدح منهما الشرر «سأطحنكم كما يُطحن السمك الموضوع في عُلبة التُونة» ولأننا كنا نعرف التونة، فقد كانت مشهورة عندنا في القرية، نشتريها في الشهر مرة أو مرتين، ونأكلها برغم رائحة «الصدأ» وطعمه، وبرغم انتهاء صلاحيتها، فقد كان يُرعبنا حينما يذكرها، ونتخيل أنه سيقطعنا قطعاً صغيرة، ويجمح بنا خيال الصغار إلى تخيل أنفسنا قطعاً محشورة في عُلبة صغيرة. أقول: حينما قلت ذلك للجماعة، قال بمكر وخداع لا نظير لهما: لا، لا يا ابني حرام أن تكذب على أستاذك، فأنا أحبك، وأحب زملاءك، وأحب أن أمازحكم، ثم التفت إلى أهل القرية قائلاً: والله إنني أحب هؤلاء الطلاب، وأشفق عليهم، ثم تهدج صوته وتظاهر بأنه يغالب البكاء، فما ترك لنا في قلوب جماعتنا مكاناً في تلك اللحظة، فقد بادر أحدهم قائلاً له: نعتذر إليك يا أستاذ سامي، لا داعي للبكاء، فأنت أستاذ فاضل، وهؤلاء الأولاد يحتاجون إلى تأديب، وردد الجماعة كلمة التأديب، وقد وجهوا إلينا نظرات غاضبة، وقالوا لنا كلاماً قاسياً، فما كان من الأستاذ سامي إلا أن قال: هؤلاء أبنائي، رجال المستقبل، أرجوكم لا تجرحوا مشاعرهم بهذا الكلام القاسي، فأنا أحبهم وأشفق عليهم، حتى وإن كذبوا عليَّ، وانتهى اللقاء بفوز الأستاذ سامي عند جماعة القرية بلقب «الأب الحنون». لن أحدثكم عن تفاصيل العقاب الشديد الذي تلقيناه جميعاً في الفصل في اليوم التالي؛ صفعاً، وركلاً، وضرباً بالرؤوس على المناضد، وتهديداً ووعيداً، ولن أحدثكم عن زيارة المدير لنا مؤنباً لنا على الشكوى إلى آبائنا من قسوة الأستاذ سامي، وكان بعضنا ما يزال يبكي من شدة العقاب، ولما سألهم المدير عن سبب بكائهم، انفجروا ينتحبون، وقام أحدهم إلى المدير، وأبعد راحته عن خديه ليرى المدير أثر صفعتين قويتين عليهما، والأستاذ سامي يُظهر أمام المدير شفقة وعطفاً كبيرين، والمدير يقول: هذا هو أستاذكم، يحبكم ويشفق عليكم، حتى وهو يعاقبكم. صورة مرعبة للأستاذ سامي تستعيدها الذاكرة، أرى فيها قسوته وعنفه من جانب، وخداعه ومكره وتظاهره بالإشفاق من جانب آخر.