حضرتُ جدلاً طريفاً بين اثنين من أقاربي في قريتنا. ولأنني كنتُ في حكم الضيف لم أتدخل. ربما كنتُ قد أشعلت الفتيل حين تمنيت لو أن إمام الجامع خصص خطبة للنظافة ، وثانية للرفق بالإنسان والحيوان ، وثالثة لعلاقات حسن الجوار ، وثالثة للإخلاص في العمل ، ورابعة لترشيد استهلاك المياه والكهرباء والغذاء ، وخامسة لحماية البيئة ، وسادسة لحقوق الأطفال والنساء ، وسابعة لمساعدة الفقراء ، وهكذا. وأضفتُ أن خطبة الجمعة محاضرة أسبوعية عامة شبه إلزامية ، ولو خصص نصفها لما ينفع الناس في معاشهم فلا بأس من ترك الربع لهجاء السحرة والجن والكفار ، والربع الأخير لدار المعاد. قال المدرس الذي كان يقرأ كثيراً ، ولايزال يتابع الأخبار والمقالات في الإنترنت (هؤلاء في واد والعالم في آخر ، ومن الحمق خطاب من لا يفهم). قال كاتب العدل الذي قيل إنه أصبح أقل تشدداً (أنتم لا تحبوننا ، ولا عبرة بحكمكم لنا أو علينا). قالها وهو يبتسم ؛ مما شجعني على الابتسام ، ثم سؤال خصمه لماذا لا يحب أمثاله شباب الصحوة المباركة وشيوخها ؟ وهنا انفتحت بوابة لم أعرف كيف أغلقها. قال (كيف أحب من يتهمني في ديني وعرضي لمجرد أن لحيتي قصيرة وثوبي طويل ؟ كيف أحب من وبخني الأسبوع الماضي فيما كنتُ في مكة مع زوجتي وأطفالنا نحاول استكمال أثاث بيتنا ؟ كيف أحب من ناقشته قبل فترة ، وحين قلت له إنني لستُ سنياً ولا شيعياً ، بل أنا مسلم فحسب ، أوشك أن يقيم عليّ دعوى تتهمني بمولاة أعداء الملّة ؟ كيف أحب من جافاني حين اكتشف أنني غير مشترك في قناة المجد ؟ كيف أحب من بث الفرقة بيني وبين أخي الأصغر ، فلم يعد يسمح لأسرته بزيارتنا لأنني أجنبي ، ولأن في بيتنا كتباً فاسدة وقنوات منحطّة ؟ كيف أحب من علم اثنتين من أخواتي أن الانشغال عن بيوتهنّ وأطفالهنّ جائز ، بل مطلوب ما دمن يذهبن لمدرسة تحفيظ القرآن بعد الدوام ؟ كيف أحب من خطفوا اثنين من أعز أصدقائي في الثانوية ، حيث خرجا للجهاد فلم يعودا ؟ كيف أحب من كفّرني بتهمة أنني لا أعترف بأن الجن يسكنون أجساد البشر ؟ كيف أحب من طالبني بتخصيص جزء من حصص العلوم لتلقين الطلاب فضائل الجهاد وعقيدة الولاء والبراء ؟ كيف أحب من يحتقر أمه وأخته وعمته وابنته ؛ لأنهنّ حريم لا يطاق مكرهنّ ، ولا تنتهي فتنهنّ ؟ كيف أحب من يتزوج ويطلق وينجب على هواه ، ودون مراعاة لمشاعر المودة والرحمة بين البشر ؟ كيف أحب من يحكم بجواز التفريق بين زوجين متآلفين بحجة عدم تكافؤ النسب ؟ كيف أحب من يستنكر حضور أديبة أو ناقدة أو أستاذة جامعية محتشمة في جمعية ثقافية أو في نادٍ أدبي ؟ كيف أحب من يمنع الرياضة عن فتيات يتعرضن لمخاطر السمنة وهشاشة العظام والاكتئاب وهنّ في مقتبل العمر ؟ كيف أحب من يلعن الكفار واليهود والنصارى في كل مناسبة ، وهو يستهلك بكل شراهة وجهالة منتوجاتهم من الآلات والأدوية ، وحتى الملابس والأغذية ؟ كيف أحب من يوبخني على السفر للاستجمام وهو لا يسافر إلا مزوداً بفتاوى تبيح له متع الفرج ما دام هناك عقد صوري يرتبه له أناس على شاكلته ينتشرون من مدن الشام إلى المغرب إلى قرى إب ؟ كيف أحب بشراً يطاردون الناس في الأسواق وكأنهم لم ينزلوا إليها إلا بقصد ممارسة الفساد جهاراً نهاراً ؟ كيف أحب من يحقق كل ما يريده الأقوياء ، ويماطل سنة تلو سنة حينما يطلب منه أمثالي صكاً يثبت أن بيت أبي ومزارعه تخصني وإخوتي ؟ كيف أحب من يحارب البنوك الربوية ، ويقدم لبنوك أشد شراهة منها فتاوى تبيح لها امتصاص أموالي بطريقة شرعية تماماً ؟ كيف أحب من يثرثر صباح مساء في كل الإذاعات والقنوات والمواقع ولا يتقبل رأياً مخالفاً له ، فضلاً عن أن يحترم رأي أحد من خلق الله في أسيا وإفريقيا وأوروبا وأستراليا والأمريكتين ؟ نعم ، لن أحب من يكرهني ويكره العالم. وإذا كان لديك رأي أو موقف أفضل فهاته يا أستاذ الأدب الحديث وعلم الجمال. والحقيقة أنني خشيتُ من معركة تنشب بين الطرفين ، فانسحبت من المجلس. \ومازلت إلى هذه اللحظة أتفكر في لغة خطرة جداً لم تكن تعرفها قريتنا الصغيرة قبل فترة قصيرة جداً جداً!