الإبداع ليس مقصورا على العلماء المتقدمين، وليس له مجال محدد بل المرء مطالب أن يكون مبدعا في كل أعماله وأن لا يكون عالة على غيره يستفيد منهم دون ان يكون له جهد ودور بارز. وإذا ذكر الابداع فيبرز الابداع العلمي على الذهن، وعلى كثرة ما ألّف المتقدمون من كتب الا ان المجال لا يزال مفتوحا امام المبدعين ممن يرغبون اثراء المكتبة بمؤلفات تبقى شاهدا على ابداعهم ما تقدمت العصور، وهذا صحيح الامام البخاري اصح كتاب بعد كتاب الله منذ ان ألف والعلماء عاكفون على دراسته والبحث في علومه وفوائده، ولازال العالم بعد الاخر يأتي بما لم يسبق اليه، وكنت قد تكلمت في مقال سبق عن كتاب الف عن صحيح البخاري وابدع فيه مؤلفه، الا وهو كتاب الشيخ: محمد الطاهر بن عاشور الذي سماه: النظر الفسيح فيما تختلف فيه الانظار في الجامع الصحيح، والمقصود هنا ان ابن عاشور من علماء القرن الثالث عشر الهجري وحين اراد ان يشرح صحيح البخاري لم يرغب ان يكون شرحه نسخة من الشروح السابقة ولكنه أتى بشيء جديد، ويحسن هنا ان اسوق ماقاله في المقدمة ليطلع عليه القارئ، يقول رحمه الله: فإن صحيح البخاري قد اشتمل على غرر من العلم والاثر ، ونكت من اتقان التبويب ولمح في التفقه والنظر، وقد انصرفت عناية علمائنا الى ايضاح معانيه ومشايعة اغراضه، انصرافا لا يعرف له نظير فيما صرفوا اليه الهمة من غيره، حتى اغنوا الناظر، وشرحوا الخاطر، وعقدوا للعلم الاواصر، جزاهم الله عن حسن صنيعهم جزاء شاكر. ولقد كثر ما عرض لي عند روايته ما يستوقف طرف الطرف، ويستحث بيانا لذلك الحرف، لم يشف فيه السابقون غليلا، او تجاوزه قلم كان عند بلوغه كليلا، فرأيت حقا ان اقيد ما بدا، وان لا اتركه يذهب سدى، والحمد لله على ما الهم اليه وهدى.. الخ كلامه في المقدمة. المقصود ان كتاب ابن عاشور يمتاز عن نظائره من الشروح المتأخره ، فهو لم يشرح كل الصحيح، كل ذلك كي لا يكون كتابه نسخة من الشروح الاخرى ليجعل الحاجة الى كتابه متأكدة، ومع ذلك فلا يزال الابداع في خدمة صحيح البخاري فقط وان كان مسماه متعلقا بصحيح البخاري، وذلك في كتاب سماه: معجم الامكنة الوارد ذكرها في صحيح البخاري ، وقد ذكر في مقدمة كتابه ان عمله هذا هو بداية لخدمة كتب السنة، والناظر في هذا الكتاب يرى انه عمل كبير وجهد عظيم ظهر فيه جهد واضح بذله المؤلف، حتى جاءالكتاب على صورة جميلة ترضي المهتمين بكتب السنة. طريقة المؤلف في كتابه هذا انه مر على كل صحيح البخاري واحصى اسماء المواضع التي وردت فيه، سواء كانت في جزيرةالعرب ام خارجها، ثم بعد ان تجمعت لديه هذه المواضع قارن بينها وبين ما ورد في اخر المعجم المفهرس لالفاظ الحديث النبوي، ثم بعد ذلك جمع كل ما كتب عن هذه المواضع من كتب المتقدمين الى زماننا هذا، ثم رتبها والف بينها وبين الراجح من الاقوال اذا تعارضت، ومما زاد من اهمية هذا الكتاب ان المؤلف له خبرة سابقة في المواقع والجغرافيا، فليس هذا الكتاب هو اول معترك له معها. من يقرأ في هذا المعجم يجد ان الشيخ سعدا قد استعرض كل ماله علاقة بهذه المواضع في جميع الفنون من تفسير وحديث وسير وكتب جغرافيا وكتب اللغة والادب وغيرها كثير، مما اضفى على الكتاب ثراء علميا كبيرا. خرج الكتاب مليئا بالمعلومات التي اوضحت كثيرا من اللبس الذي يقع بين بعض المواضع اما بسب تشابه اسمائها او بسبب قرب بعضها من بعض، او بسبب اندثار تلك المواضع التي ورد ذكرها في السنة النبوية وحدوث مواضع جديدة قد تكون بعيدة عنها سميت بنفس الاسماء السابقة، كما ان المؤلف في كتابه هذا لم يكن سبيله النقل فقط بل كان ناقدا ومصححا ومرجحا في كثير مما يمر عليه من الاسماء، ومن طريقة المؤلف انه إذا تكلم عن اسم موضع ورد في صحيح البخاري اتى بكل ما يجد ثم بعد ذلك يعقبه بالكلام على مواقع أخرى تشترك معه في نفس التسمية حتى لا يترك مجالا للبس عند احد. هذا ، وقد رتب المؤلف كتابه ترتيبا هجائيا على طريقة معاجم البلدان مما يجعل الوصول الى الموضع المطلوب سهلا ميسرا. ومما زاد الكتاب تلك الخدمة الطباعية التي لبسها، فقد خرج في شكل جميل من الحجم الكبير، وإن كنت اتمنى من الطابع ان يعيد النظر في الكتاب لوجود كثير من الاخطاء المطبعية التي تفسد المعنى احيانا، وكنت اتمنى من المؤلف ايضاً ان يتكلم على بعض النقول التي ذكرها المؤلف في هذا الكتاب وفيها دعوة إلى الغلو في بعض المواضع خصوصا تلك التي في المدنية النبوية لأن الكتاب سيبقى بعد المؤلف فلابد ان يزيل المؤلف فيه كل مايمكن ان يعلق بالاذهان. ومهما قلت عن الكتاب ومؤلفه فإن الكلام عن الهيئة التي تكلفت به طباعة وتوزيعا : الا وهي: دارة الملك عبدالعزيز، الكلام عنها سيطول بنا، ولكن يكفي انها من خير المراكز العلمية اهتماما بالبحث والباحثين، بارك الله في جهود القائمين عليها وزادهم توفيقا وسدادا.