الأديب والكاتب محمد بن عبدالرزاق القشعمي ظل يفكر بصمت.. إلا أن هذا الصمت تجاوز الأربعة عقود حتى أخذنا اليأس من أن يصبح القشعمي كاتباً أو أديباً يسهم في إضاءة الساحة الثقافية بالعديد من الآراء والصور الواقعية التي تعد شاهداً على قوة ذلك الإنسان في ذلك الزمن الغابر.. فالقشعمي وقبل عام قدم للقارىء باكورة إنتاجه الكتابي وهو «بدايات» على شكل مسيرة ذاتية شيقة.. تداخلنا معه من خلالها ومن خلال «مساءلات» فجاءت المقابلة على هذا النحو: * بعد عقود أربعة من التأمل والقراءة خرجت في هذا المؤلف )بدايات(.. ما الذي استنطقك بعد هذا الصمت الطويل؟ - المشاهد والصور المتفرقة منذ الطفولة لا تفارق ذهني لما تتضمنه من قسوة ومعاناة وشظف في العيش وخصوصاً في القرية، وبالذات القرى التي عشت فيها فهي معزولة عن البلدة أو شبه المدينة، فالقرية لا يصلها قاصدها حتى من أبنائها إلا بشق الأنفس فهي محاطة من جميع جهاتها بكثبان رملية عالية، ولهذا فأبناء البلدة التي يوجد بها «السوق» لبيع وشراء ومقايضة موجودات الفلاح أو الحطاب أو العامل - النجار - الصانع - الخراز.. إلخ لا يصدق من أبناء تلك القرى )العقل( لا يأكلون اللحم إلا في عيد الأضحي اللهم إلا إذا أصيبت إحدى البهائم بمرض يعرضها للموت فيتم - تزكيتها - ذبحها وتوزيع لحمها على الجميع فبعد أكل اللحم يصاب الجميع بالإسهال وغيره من الأمراض. ولو سألت أحداً من أبناء البلدة - التي تكبر القرية أو تصلها السيارة عند بداية معرفة الناس بها - عن )البخص( لما عرفه. رغم أنه يعد بالقرية وليمة كبرى رغم أنه عبارة عن عظام الجمل، وما حوله من عصب ويجلب بعد ذبح الجمل بما يقارب الأسبوع وقد يبس عليه ما تبقى من عصب، فيتم غمره بالماء حتى يلين فيتم طبخه بعد ذلك لساعات طويلة قد تمتد ليوم كامل. لا أنسى أنني وأنا طفل صغير وقد حللت مع والدتي ضيوفاً لدى خالي بقرية أخرى )الثوير( وكانت جدتي لأمي تقيم لديه فقبل النوم كنت أبكي وبحرقة من الجوع وأشحذها ولو تمرة واحدة فأوافق فتعطيني إياها بخفية حتى لا يراها بقية الأطفال، فأنام وهي في فمي من الفرح. فتقول والدتي: إنني أرضعها كما أرضع الثدي. كما أذكر أنه مر فصل الصيف كاملاً ولم نذق فيه سوى )القرع( مع الماء والملح فقط. * ما دام أن لديك هذا النفس الطويل لماذا لم تكتب الرواية على غرار ما أنجزته في هذا الكتاب؟ أما زلت تسكنك هواجس التردد؟ - لم أصل بعد إلى مستوى الكتابة الروائية أو حتى القصصية.. هذا حسن ظن منكم.. إنما أنا مجرد راو أو سارد لأحداث قد يكون منها الحقيقي أو ما تخيله الفتى وأرى أنها جديرة بالتسجيل. ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه. أما التردد فليس وارداً، قد أكون انشغلت حالياً بدراسة الصحف القديمة أو البدايات الصحفية في المنطقة الشرقية وخصوصاً لعلاقتي الوثيقة بالأستاذ الشيخ عبدالكريم الجهيمان وبصفته أول من أسس صحيفة هناك )أخبار الظهران( ولمعرفتي بكل رؤساء تحرير تلك الصحف التي صدرت خلال السبعينيات الهجرية التي تقارب نصف قرن من الآن، ومن حسن الحظ أن يكونوا كلهم على قيد الحياة وقد حصلت منهم على شهادات مكتوبة سوف أضمها في كتاب يحمل نفس الاسم بعد أشهر ويجدر بي أن أذكرهم وأشكرهم على تجاوبهم وحسن ظنهم بي وهم: الأستاذ عبدالكريم عبدالعزيز الجهيمان أول رئيس تحرير لجريدة أخبار الظهران. ويوسف الشيخ يعقوب أول رئيس تحرير لجريدة الفجر الجديد، وسعد عبدالرحمن البواردي أول رئيس تحرير لمجلة الإشعاع، وعبدالله أحمد شباط أول رئيس تحرير لمجلة وصحيفة الخليج العربي. ويتم حالياً نشر نماذج من هذه الاطلالة بجريدة الجزيرة والهدف هو تقدير دور من عمل وصبر في وقت تشح فيه الإمكانات ومع ذلك اختطوا طريقاً معلماً واضحاً لهذا الجيل الحاضر الذي لم تتضح له الصورة الكاملة لما سبقه مما بذل من جهد وتعب ومعاناة. ومن حقهم علينا أن نبرز دورهم ونشكرهم علي تضحياتهم ونرى غرستهم الباسقة اليانعة )وأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا(. * القشعمي ونفود الثويرات من البداية حتى النهاية.. ما الذي خرجت به من مخزون عاطفي تجاه الرمل..؟ مازلت أتذكر وأنا طفل صغير برفقة والدتي وخالي عبداللطيف الفقي يرحمه الله. - وضعني ب)الخرج( فوق الحمار وهما مسافران إلى والدتهما )جدتي( في الجوي للثوير مسافة نصف نهار وخوفاً من أن أعيق مسيرتهم أو اعطلهم وضعوني بالخرج. وكان عبارة عن كيس صغير لا استطيع أن أمد رجلي فبقيت )محرول( وآلمتني أقدامي وبكيت بشدة على أمل انزالي لأمشي معهم على قدمي الصغيرتين، وتم ذلك بمجرد أن وضعني خالي إلا وغاصت قدمي بالرمل واعقتهم فأعادني مرة أخرى ولكن بعد أن أحسن من وضعي في الخرج. وكنا نلعب بالرمل ونخلطه بالماء، ونصنع منه بيوتاً وشوارع وحيوانات وتسمى هذه اللعبة )رخرَّافة(. وطبعاً لم تكن الأحذية معروفة فكلنا أطفال نلحق بأمهاتنا عندما يذهبنى للبر القريب لجلب الحطب أو الحشيش عندما يكون الوقت ربيعاً، ولكن الرجال أو كبار السن من أهل القرية يمنعوننا من اللحاق بهن حتى لا نعيقهن ونؤخر عودتهن بعد إنجاز العمل ومنه ابعاد البقر أو الغنم لترعى في )التغر( القريبة من القرية )العقلة(. ما زلت أحن إلى الرمل وكلما ذهبت لزيارة الوالدة والأقارب هناك أذهب لنفس المكان رغم أنه تشوه بما يسمى التحضر فقد اخترقه هذا الأسود القاتل )الأسفلت( ولطخ معالمها وبراءتها. وأيضاً صار الماء يصل بواسطة الأنابيب وليس من )البركة( أو )المدى( وكذا الكهرباء والهاتف، والقرية تغيرت وكبرت ولكني ما زلت أحبها واتخيلها كما كانت. * مشاهد «بدايات» ومضات تراثية مغرقة في خصوصيتها.. هل أنت معني بالتراث إلى هذه الدرجة؟ - كغيري ممن يهتم بالتراث، ولكن هناك مختصون لدراسته وبحثه، هذه اللمحات مجرد صور حقيقية لأشياء قريبة يدركها وأدركها الجيل الذي سبق وأدركت بقاياها قبل أن تزول وخوفاً من أن يأتي جيل لا يقدر أو يعرف شيئاً عنها أحببت الإشارة إليها على طريقة حنا مينه )بقايا صور( التي سجل بها ما علق في ذاكرته من الأسكندرونة قبل أن تسلخ من سوريا وتلحق بتركيا كما هي عادة الاستعمار )فرق تسد(. * تفتش جيوب الماضي.. هل فقدت شيئاً وأنت بصحبته؟ وما الذي سرقه منك ذلك الكائن الذي مضى في حال سبيله؟ - نعم، أفتش في جيوب الماضي وحكاياته، إلا أن «بدايات» لم تكن رغبةً من الفتى في كتابة تاريخ مرحلة من مراحل التاريخ بكل ما فيها من أحداث وتحولات، كما أنها ليست انتقاماً شخصياً للفتى من أولئك الذين نهشوا من طفولته التي لم تكن عادية تشع بحنان الأسرة واستقرارها، وإنما جاءت حياته مختلطة بعقليات الكبار وقسوتهم وخشونتهم. أما ذلك الكائن الذي مضى في حال سبيله - كما تقول - فقد حاولت أن آخذ بيده ليقف معي على مخبأ ما يخص تاريخه، وأجزم أنه سيقف مع «بدايات» على سير أحداث تاريخية لا تظهر إلا لمن يملك صبراً، إنه سيتتبع معي خيطاً طويلاً لا يكاد ينتهي، لكنه في النهاية سيكتشف حبكة بدايات في أنها لا تتعدى تسجيل حدث تاريخي لفترة تاريخية. * الأديب الراحل عبدالعزيز مشري وصف اهتمامه )بدايات( بهذا الاسم هل كان يعني رحمه الله بدايات القشعمي؟ أم بدايات سيرته الذاتية؟ المشري رحمه الله له ذكرى عطرة وسبق ان اختلفت معه بنزق عندما تعرفت عليه في الدمام بجريدة اليوم قبل ربع قرن عندما كان يعمل بالجريدة وأنا أعمل بمكتب رعاية الشباب بالأحساء واحضرت له نص محاضرة لطباعتها بمطابع الجريدة ورشحه رئيس التحرير وقتها الشاعر الصديق محمد العلي لمتابعتها ووعدني أنني سأجدها في الأسبوع القادم منتهية وعندما عدت وجدتها كما هي فغلظت عليه بالقول وقسوت عليه.. وبعد سنوات تمكن المرض منه عادت العلاقة وتوثقت الصداقة إلى ما تعرف، فكتب في 24/10/1417ه في ثقافة عكاظ عدة رسائل لبعض أصدقائه، ومنها رسالة موجهة لي وهذا نصها )الأستاذ محمد القشعمي. كلما مسني الخجل، ووجدت الجواب، حينما أرغب في التعرف على كيفية التعامل المهذب الحريص مع الآخرين.. يبرز وجهك الأبيض كالعلم.. اسألك: ألم تفكر في جمع رحيق تجاربك المديدة بين جناحي كتاب؟(. بصراحة قابلت هذا الكلام بضحك وسألته وهل تعتقد أن لدي ما يستحق؟ ليس لدي إلا أقل بكثير ما لدى الآخرين. وعندما بدأت مؤخراً وبعد تجاوز الخميس الكتابة ووجدت من يستعد لنشرها رغم بداياتها أصابني الغرور أو شيء من هذا القبيل وجربت الحلقة الأولى ووجدت من يعلق ومن يتصل ومن يشجع ومن يستعد لمد يد المساعدة في تعديل أو تهذيب أو تشذيب بعض العيارات أو على الأصح ملاحظة اللغة لعدم تمكني الواثق منها، لكل الأخوين عبدالله حسين وعبدالعزيز الصقعبي. السؤال أن الأخ عبدالعزيز مشري - رحمه الله - كان «يقصد فعلاً السيرة الذاتية وقالها بصريح العبارة رغم اعتراضي لأنه لا يكتب السيرة إلا العظماء وذوي المكانة المؤثرة في المجتمع. * لماذا تشبثتَ بالماضي؟ ولماذا لم تتركه نائماً بسلام؟ وهل ضقت ذرعاً به؟ - من لا ماضي له لا حاضر له.. ونبش الماضي عبرة لمن لم يعشه كما كان. قد يكون الاختلاف شكلياً وليس جوهرياً بين القرية والمدينة أو بين السماء والجنوب وبالعكس. فالحياة بصعوبتها هنا وهناك واحدة. ولكن تركه نائماً يعد انهزاماً أو جبناً فلا بد أن تجرده من سلاحه وتقضي عليه حتى لا يعود كما كان. طبعاً تركه نائماً قد يستيقظ ويعود ويخيم الجهل ويعم التخلف وتتوقف الحياة ومواكبة الركب وتصبح الحياة على الهامش هي السائدة. فقررت عندما وجدت التشجيع الفرصة سانحة لفضحه وكشفه وتعريته والتخلص منه. خرج من رمل «الثويرات» بلغة شاعرية حالمة المشري - رحمه الله- هو الدافع الخفي لصدور «بدايات» كتابي «سيرة ذاتية» للألم سأرويها للأجيال القادمة سأجمع بعض الكتابات الأخرى لأقدم للقارىء بعض دهشتي في تلك العوالم ************ بطاقة محمد عبدالرّزاق القشعمي * أديب وكاتب ورئيس الشؤون الثقافية بمكتبة الملك فهد الوطنية. * أسهم بإدارة الأنشطة الثقافية من خلال عمله السابق بالرئاسة العامة لرعاية الشباب على مدى أكثر من ربع قرن. * مثل المملكة في أكثر من محفل ثقافي وتجمع شبابي في العديد من الدول العربية والأجنبية. * كتب المقالة في أكثر من مطبوعة سعودية. الكتاب: * بدايات )سيرة ذاتية(. * دار الكنوز -بيروت. * الطبعة الأولى 2001م * )عدد الصفحات 160(.