من أصعب الأمور الكتابة في الأنساب وتاريخ القبائل، لأنها أمور تتعلق بخواص الناس وينبني عليها أمور كثيرة، وكذلك فالخلاف فيها كثير، ومن الصعب جدا أن يجمع المؤلفون في هذا العلم على أمر واحد إلا في النادر جدا، ويعود السبب في ذلك الى قلة الكتب القديمة في هذا الباب زيادة على ما مر بكثير من القبائل جراء الحروب والتشتت في البلدان والفقر والضعف في أمور كثيرة قد تحوجهم الى الانضمام مع قبائل أخرى، كل ذلك داع الى وجود الخلاف في الأنساب وقلة الكتابة فيها، ويأتي زيادة على ذلك أن كل إنسان له رأي في الموضوع لأنه يرى أنه يخصه وقد يأتي برأي مخالف لما عليه جمهور هذا الفن، وكما تقول العامة: )كل شخص في رأسه صوت(، وفوق هذا كله يأتي مصداق ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: ثنتان في الناس هما بهما شرك: الطعن في النسب والنياحة على الميت فأفاد هذا الحديث أمرين: الأول: أن التطاعن في النسب لن يزال في الناس، والثاني: وجود الخلاف في النسب، إذ من أهم أسباب الطعن في النسب الاختلاف في إثباته، ولا يعني كلامنا هذا أن يكف الناس عن البحث في الأنساب والقبائل، بل معرفة الإنسان لنسبه أحد المطالب الشرعية التي يطالب بها كل شخص، ويبرز أمامنا قصة أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين أمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلم حسان بن ثابت أنساب قريش لكي يدخلها في هجائه لهم، زيادة على أن معرفة النسب يترتب عليها مصالح شرعية من صلة رحم وبيان وارث وولي نكاح وغيرها كثير، لكن يتعلمها على الصورة التي أرشدنا إليها ديننا بدون حمية أو عصبية أو فتح لباب الهمز واللمز والتنابز. وكما سبق أن أسلفت فالمؤلفات في باب الأنساب قليلة وتزيد في نجد لقلة الكتابة قديما وعدم تقييد الناس لتاريخهم، وليس هذا مكان تعداد هذه الأسباب، ولعل من أقدم ما سجل من مؤلفات لعلماء نجد في النسب مجموعة أوراق كتبهاجبر بن جبر بن سيار بن شقير بن حزمي الذي عاش في القصب في أواخر القرن العاشر وأوائل القرن الحادي عشر الهجري )ت: 1085ه(. كتب جبر بن سيار مجموعة أوراق في ذكر بعض القبائل وإعادة لبعض الأسر الى أصولها، وأظن أنه حين كتبها ما كان يتصور أنها ستكون يوما ما من أقدم المصادر في الأنساب النجدية، ولهذا كانت متضمنة جملة من الأخطاء وضعفا في المعنى وركاكة في الأسلوب، ومن حسن حظ هذه الأوراق التي جمعها جبر بن سيار أن يتولى إخراجها والإشراف على طبعها أخونا الأستاذ راشد بن محمد بن عساكر وفقه الله، وقد أهداني نسخة من عمله هذا. وقد قرأت الكتاب كاملا واطلعت على جهد بارز وموفق للمحقق، كما شخصية قوية واثقة، ومما يقال هنا انه لا يمكن لأي شخص يخرج كتابا مشتملا على أخطاء، إلا ويجد نفسه أمام واجب التصحيح، لأن إخراج الكتاب بأخطائه موافقة للمؤلف عليها، ولأن هذه الأوراق التي كتبها جبر بن سيار كما سبق أن أشرت قد حوت أخطاء وبعدا عن الصواب كان لابد للأستاذ راشد من أن يكون له دور في تصحيحها والتعليق عليها: لهذا خرج عمل الأستاذ راشد عملا كبيرا بالنسبة لحجم الكتاب الأصلي وهي ثلاث ورقات، ولعلي أن أسوق هنا عرضا مختصرا لما خرج عليه عمل الأستاذ راشد، فأقول: ابتدأ المحقق الكتاب بمقدمة طويلة اشتملت على عرض موجز لعلم الأنساب وأهميته وحاجة الناس إليه ثم عرض لأهم المؤلفات القديمة فيه، وقبل ذلك تعرض لأسباب شح المصادر فيه، ثم لما أنهى ذلك جاء بعرض لأهم كتب الأنساب في نجد وفصل كلامه على كل كتاب ببيان أوجه الصواب والخلل على الكتاب ثم بين مخطوطاته أو طبعاته حسبما أمكن، ثم تكلم المحقق بعد ذلك عن جبر بن سيار فترجم له ترجمة بين فيها اسمه وإمارته لبلدة القصب وكذلك تحدث عن منزلته الشعرية ثم عن عصره الذي عاش فيه، وفي الأخير تحدث عن وفاته، فلما قضى من الحديث عن المؤلف تحدث عن المخطوطة: عن عنوانها وتوثيقها ووصف للنسخ الموجودة منها ثم تحدث عن مصادرها التي اعتمد عليها جبر بن سيار وختم حديثه عن المخطوطة بالحديث عن الملحوظات التي لوحظت على جبر بن سيار خلال كلامه في هذه الأوراق، وأشار الى نوع هذه الأخطاء ومواضع منها. سار الأستاذ راشد في تحقيقه لهذه المخطوطة على الخطوات التالية: المقارنة بين النسخ وبيان الصواب، وخدمة المخطوطة بالتعريف بالغريب والأعلام. تصحيح الأخطاء الواردة في الكتاب وبيان الصواب فيها من مصادره. رأى الأستاذ راشد أن يضيف كلام ابن سلوم عند ورود مواضعه في الهامش، لأن ابن سلوم استفاد كثيرا من جبر بن سيار في رسالته هذه وأضاف لها إضافات بسيطة، رأى المحقق وضع هذه الزيادات في هامش هذا الكتاب بعلامة معينة، فنكون خرجنا بكتابين: كتاب جبر بن سيار وكتاب لابن سلوم هو كالإضافة على كتاب جبر. هذه الثلاثة الأمور السابقة قد نوافق المحقق على السير عليها لأنها هي الطريقة العلمية المعتادة وفيها خدمة للكتاب، لكن المحقق أضاف أمرين هما في رأيي أثقلا من حجم الكتاب وإن كان الاستغناء عنهما ممكنا، وهما: أطال المؤلف الكلام عن الأسر أو القبائل التي ذكرها جبر في كتابه وعلق عليها في الهامش بكلام طويل ينقل فيه كلام المتقدمين من أهل النسب، وهذا الأمر جعل الحواشي تطول أحيانا الى صفحات في التعليق على كلمة واحدة، وأتوقع أنه كان يكفيه الإشارة فقط دون هذه الإطالة، لأننا نريد كلام جبر فقط، أما كلام غيره فباستطاعة المحقق أن يجعله في كتاب مستقل، وعلى كل قد يكون للمحقق رأي في عمله هذا هو أعرف به. مما وضعه المحقق في كتابه هذا: أنه وضع ملحقا في آخر الكتاب يشتمل على بعض الصور لوثائق نجدية أو مخطوطات كتبها أهل نجد أو بعض النبذ في الأنساب، وهذا عمل جميل إلا أنه زاد من حجم الكتاب وليس له علاقة مباشرة بكتاب جبر بن سيار. نعود الى وصف الكتاب فنقول: بعد بيان المحقق لطريقته في التحقيق أخرج النص المحقق وخدمه خدمة علمية جميلة جمع فيها بين العارف بالتحقيق والمتخصص في الأنساب، وهذا في الحقيقة يدل على الملكة التي يكتسبها المحقق زاده الله فكتب الأنساب والتاريخ لا ينبغي أن ينبري لتحقيقها إلا شخص عارف للطرق العلمية في التحقيق عنده إلمام بعلم الأنساب والتاريخ، وإلا خرج الكتاب ناقصا من وجه كاملا من وجه آخر. وبعد انتهاء المحقق من تحقيق النص ألحق كما سبق أن ذكرت صورا لمخطوطة الكتاب، ثم أعقبها بصور لنماذج من بعض الوثائق النجدية القديمة وبعض المخطوطات التي نسخها بعض العلماء النجديين، وهذه الصور لهذه الأنواع من المصورات لها فائدة كبيرة في تبيين النسب لشخص معين وأحيانا لعائلة أو قبيلة بأكملها لأن ناسخ المخطوطة مثلا في غالب الأحوال يذكر اسمه كاملا وفي أحيان كثيرة يطيل فيه فيصل الى النسبة الى القبيلة التي ينتسب إليها، وقد يزيد ذلك فيصل الى ذكر الزمن الذي كتبه فيه والحاكم الذي يحكم البلد، في أمور كثيرة ليس هذا موضعها قد تدل على فوائد لا تحصى عند علماء التاريخ والنسب. ولعل مما يؤخذ على المحقق في كتابه هذا كثرة الأخطاء اللغوية والإملائية ولعلها مطبعية، وسأذكر مثالا واحدا فقط وهو قصيدة الحطيئة حينما سجنه عمر بن الخطاب فقال أبياتاً يستعطفه بها، وذكرها جبر في رسالته هذه وهي في ص 95، والتي مطلعها: ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ زغب الحواصل لا ماء ولا ثمر فقد وردت الأبيات مكسرة مع محاولة المحقق تقويمها في الهامش ولا يزال فيها أخطاء أيضا، مع اني أظن أن الواجب على المحقق أن يذكر الأبيات موزونة ثم يشير في الهامش الى الأخطاء التي وردت في المخطوطة، وأيضا أقول تعقيبا على هذه الأبيات التي ذكرها جبر هنا كان على المحقق أن يتكلم على القصيدة من ناحية بيان الحصيلة العلمية التي كان عليها جبر بن سيار، لأنه هنا لم يأت بها من حفظه وإنما نقلها عن ابن عبدالبر وغيره كما قال ذلك، والمحقق لم يبين ما اسم كتاب ابن عبدالبر هذا وإنما أحال القصيدة ومنها هذه الأبيات الى ديوان الحطيئة مع كثرة الكتب المطبوعة لابن عبدالبر، وما أظن هذا الأمر يخفى على المحقق. هذا هو كتاب جبر بن سيار يخرج بهذه سيقوى على أن يفعل ما فعله الأستاذ راشد بن عساكر بهذا الكتاب زاده الله توفيقا.