يحكم مبدع التعبير الفني البلاغي في العصر الحديث الاستاذ احمد حسن الزيات «1302 1388ه» رحمه الله بأن الآداب العربية أغنا الآداب جمعاأ؛ لأنها آداب الخليقة منذ طفولة الإنسان إلا اضمحلال الحضارة العربية؛ فما كانت لغة مضر بعد الإسلام لغة أمة واحدة، وإنما كانت لغة لجميع الشعوب: التي دخلت في دين الله، أو في كنفه.. أودعوها معانيهم وتصوراتهم، وأفضوا إليها بأسرار لغاتهم.. ثم جابت أقطار الأرض تحمل الدين والأدب والحضارة والعلم، فصرعت كل لغة نازعتها، ووسعت علوم الأولين وآداب الأقدمين، من يونان، وفرس، ويهود، وهنود، وأحباش، واستمسكت على عرك الخطوب تلك القرون الطويلة، فشهدت مصارع اللغات حولها وهي مرفوعة الرأس رابطة الجأس.. ترث نتائج القرائح، وثمار العقول من كل أدب ونحلة، فكانت لغات الأمم علا اختلافها كالجداول والأنهار: تتألف، ثم تتشعب، ثم تتجمع، ثم تصب في محيط واحد هو اللغة العربية»(1). قال أبو عبدالرحمان: هذا الكلام من كتاب الزيات عن تاريخ الأدب العربي أول كتاب اشتهر به، ونال استحساناً، وهو كتاب للطلاب وليس للعلماإ، على نحو الكتاب الفحل لعمر فرَّوخ.. ولكن فائدة الطلاب منه أجل من أي كتاب آخر في هذا الغرض، ويزينه أسلوبه الجميل، وأنه أحسن الاختيار أحياناً.. علا أنه بعض المرات يورد من الاختيار نزراً، ويكتفي بأحكامه عن عموم أدب الأديب.. أما تعرضه للفقهاإ والمحدثين والفلاسفة فيليق بطلاب الابتدائي للسنة الخامسة والسادسة.. ويجره السحر الحلال من أسلوبه الأدبي الجميل إلا الانسياب بالجمل المترادفة معنا، المزدوجة بلاغة، فيمتعنا ويغنينا أدبيًّا، ويتعبنا ويفقرنا، لكي نلم بأصابعنا ولو قليلاً في راحة اليد من حصيلة ذلك الكلام الإنشائي الجميل.. ولا أنقص من قيمة أمير البيان العربي وقدره، وأنّا لمقامه الفارع أن يهصره مثلي.. ولكنه رحمه الله هاكذا أراد.. أراد ان يُعلِّم الطلاب جمال الأداإ، ويمتعهم ببعض المختارات، وما زاد علا ذلك من معلومات فهو مكسب يُربي علا الغاية التي أرادها.. وفي كلامه عن الأدب الحديث وقف عند شوقي وحافظ والزهاوي مع أن الرصافي أجدر بالإيراد وطمر طمراً متعمداً أمتع وأغنا ما وصل إليه الأدب الحديث في عهده ممثلاً في الشعر المهجري، ومدرسة أمين الخولي، وأقطاب الرومانسية.. وكفا بهذا الطمر عيباً أن تجاهل مثل إبراهيم ناجي وعلي محمود طه المهندس، ومدرسة العقاد النفسية.. وهو لم يمت رحمه الله إلا عام 1388ه: فإما أن يكون ذلك من تحاسد أهل العصر، وإما أن يكون مابعد الزهاوي علا غير ذوقه الأدبي، وإما أن يكون عازماً علا التأليف عن المراحل الأدبية الأخرا لمراحل دراسية أخرا.. ولعل هاذا هو الأحرا، لأنه جعل للرومانسية العربية مشاركتها في مجلته الرسالة، وأما الرومانسية الغربية فهي أمُّ المواد.. وهو رحمه الله حقيق بجزيل الشكر، وخليق بأريج الذكر علا استرساله في الثناإ علا الموهبة العربية بأسلوبه البلاغي الأخَّاذ.. ولولا أن الموهبة العربية أصيلة في جوهرها، كامنة الوجود بالقوة: لفرحنا بمثل هذا التنويم المغناطيسي الزياتي الذي هو أبها من حلم لذيذ.. إلا أن المعدن العربي غنيٌّ بلا تكثُّر ولا تزويق، لهاذا أتعامل مع إيقاع الزيات لابمذهب قابلية الفن للتعبير.. بل بوجوب قابليته للتعبير أي أن يكون دالاً لأنه نص، وكل الفنون قابلة للتعبير،. والنص الجمالي أجدرها وأوجبها، لأنه بلغة جُعلت لذالك؛ لهاذا أقف هذه الوقفات: الوقفة الأُْولا: أنه رحمه الله لما حكم بأن آداب العربية أغنا الآداب وهو يريد آداب اللغة المضرية منذ قرنين قبل الإسلام علَّل ذلك بأنها آداب الخليقة منذ طفولة الإنسان إلا اضمحلال الحضارة العربية. قال أبو عبدالرحمان: ماكان الإنسان في طفولته في الحقب التي أرادها الزيات، بل كان في أوائل الكهولة، لأنه وقت مابين السبابة والوسطا في إشارة الرسول صلى الله عليه وسلم عن عمر أمته إلا يوم القيامة في أعمار من مضا.. وأحوال من مضا علا صفتين: أولاهما: صفة قوم هلكوا، ولم يوجد لهم كتاب، وجاأت الأخبار الشرعية المعصومة، والتواتر التاريخي المانح لليقين، والآثار المادية: علا أنهم ذوو علم وثقافة وتراث وحضارة.. واللغة الأدبية المعبرة عن كل ذالك ضربة لازب، فنحن علا يقين من وجودها وضياعها معاً.. والحفريات وفك الرموز الأثرية الخطية: يظهر كل يوم عجيباًَ. وأخراهما: آداب أمم مأثورة باقية.. منها ما رضيته ذائقة أمة اللغة المضرية فترجمته رافداً لآدابها، ومنها ما تأخرت ترجمته عربياً إلا عصر النهضة الحديثة، فلماذا الفخفخة بهاذا الحكم العام المجحف: «آداب الخليقة منذ طفولة الإنسان» ونحن بين روائع الأدب اليوناني والهندي والفارسي.. إلخ.. ومع هاذا فمعظم عمر الخليقة قد مضا؟!.. والوقفة الثانية: أن الزيات رحمه الله حكم بذلك الغنا منذ طفولة الإنسان.. غنا الأدب العربي، لأن لغة مضر ليست لغة أمة واحدة، بل لغة شعوب جمة.. وصدق عميد البلاغة العربية رحمه الله.. إلا أن هذه المنقبة ليست منقبة إبداع موهبة عربية تدل عليه تلك الآداب، فالثناأ في البداية للغة التي استوعبت ثقافات الشعوب، ولتاريخ الأمة الذي لم يركن للجمود. الوقفة الثالثة: أن لغة الإنجليز الآن استوعبت ثقافات الشعوب، وكانت هي اللغة العالمية الحية، فالثناأ مشترك بين اللغة العربية واللغة الإنجليزية، وبين التاريخ الإنجليزي بعد فارق النصوع الديني وبين التاريخ العربي، لكن ميزة الأمة العربية وتاريخها في أمرين: أولهما: قابلية اللغة العربية للنماإ مفردة، وأسلوباً مركباً.. مع الوجود بالفعل لسعة الدلالة بوفاإ رموزها للدلالة علا الموجودات بأنواع أفعال زمان وأنواع أسماإ وصفات، وأنواع روابط، ودلالات إبهام وتفصيل كهاذا وهاأُلاإ ومن وما وغير وبعض.. إلخ.. وبوفاإ تركيبها لأنساق بلاغية ثرية باللمحة والإيجاز، والإفاضة والإطناب، وسعة المدلول عليه بسعة ضروب المجاز، وكثرة الصيغ «الأوزان» وتعدد دلالاتها.. وأما القابلية فهي التجدد للنماإ بالتعريب والاقتراض والمجاز والنحت والتشبيه. وثانيهما: أن اللغة الإنجليزية بذاتها مجردة عن أهلها الناطقين بها بدأً مستوعبة لكل معارف الشعوب، مستعينة علا ضيقها الدلالي بالاقتراض الكثير والنحت والرمز للجمل الطويلة بكلمة مركبة من حروف الجملة «وذاك نوع آخر من النحت» أما الأمة ذات اللغة «وهم الإنجليز» فهم ذوو مشاركة في المعارف العالمية، وليسوا ذوي تميز؛ بل هم الدولة المتخلفة في العالم الأوربي المتقدم.. بينما مشاركة العرب في مجدهم التاريخي يضارع استيعاب لغتهم، لأنهم ذوو ميزة كيفية وتفوق كمية في توليد المعارف ونموها. وأم الفضائل أن الأمة العربية بوازع الإسلام ودوافعه دعاة سلام ووآم، وروَّاد خير للبشرية، وليس في تاريخهم مفهوم الاستعمار الفلسفي العملي المنتن، ولا العمل في الظلام لكيد البشر والشعوب، بل يتبارون في فضح أعمال الشر التي تتم في الظلام.. وما شكا مخالفهم في الملة، العائش في ذمتهم ومعاهدتهم غبناً في الحقوق؛ فما بالك بنوافل البر والمرحمة. الوقفة الرابعة: الوضع الصحيح من القول والبيان: أن اللغة العربية أيام تاريخ أهلها الجهوري لغة لجميع الشعوب التي في حوزتها، وهي: إما عربية بخلوص اللسان «وما كانت عربية إلا بمنحة إسلامية» وإما إسلامية لدخولها في دين الله وبقاإ العجمة وكون العربية لغة ثانية. والوضع غير الصحيح من القول والبيان: هو زعم الزيات رحمه الله أن الآداب العربية هي آداب الخليقة.. إلخ.. كلا، بل آداب الخليقة هي آداب العرب، ولكن العربية بالتعريب، والاقتراض، والاقتباس، والتّمثُّل أصبحت لغة لآداب الشعوب، وانتشر ماكان وجوداً بالفعل من الآداب العربية في آفاق الشعوب، وظهر ماكان وجوداً بالقوة من الآداب العربية: بامتصاص ثقافات الشعوب، والنفوذ من أغوارها بالتصحيح والإضافة والتوليد المبدع.. بالله ثم بفاعلية اللغة الثرية، وقابلية النموذج الأدبي العربي، واستعداد الجنس العربي لتوسيع أُفُق الآداب والعلوم والثقافات والحضارات إبداعاً ورعاية وانشراح صدرٍ للاستمتاع «وذلك بخلاف الأمم الهمجية البربرية»؛ فشاع الأدب العربي الأصيل، وتوسع أداأُه ومضمونه من ثقافات الشعوب، وبرز استعداد الموهبة العربية في التمثل والتوليد والابتكار: من عربي صميم، ومن عربي باللسان فحسب. الوقفة الخامسة: ماذكره الزيات من الامتصاص اللغوي العربي لآداب الشعوب: «أودعوها معانيهم، وتصوراتهم.. إلخ» .. مع إيقاعها الجميل منذ الرومانسية إلا أحدث الحداثة: دليل تجريبي علا أن اللغة العربية أداأَ مفردة، ووزن، ورابطة، ونحو.. وأداأَ كلام مركّب بلاغة، وسياقاً، ومجازاً، وتوليداً، وتداعياً لن تشكو سأم الأداإ الدال، وأن تفجير اللغة متجدد، وإلا لقاإ إن شاء الله. (1) تاريخ الأدب العربي للمدارس الثانوية والعليا/ دار المعرفة ببيروت/ الطبعة الرابعة (لعلها طبعتهم) عام 1418ه ص 7.