طغى على شعر كتاب «أدب الحجاز» ونثره الرؤية الرومنسية، أدبياً، والرؤية اللبرالية، فكرياً، وكان ذلك نتيجة طبيعية لاتصال الأدباء الشبان، آنذاك، بالحركة الأدبية الحديثة المشتعلة في مصر والشام والمهجر، بما يغلب عليها من دلائل الأدب الحديث كالقلق والاكتئاب والتمزق والحيرة، وهي السمات التي عادة ما تهيمن على «الرومنسية»، والدعوة إلى الحرية والفردية، وحمل عبء اصلاح المجتمع والنهوض ب «الوطن» هذه المفردة الجديدة على المعجم الثقافي في الحجاز، وذلك بعض فيوض خطاب عصر النهضة في الوطن العربي، وعبر أشكال أدبية بالغة الجدة، حينذاك، كالشعر المنثور والمقالة، إضافة إلى القصيدة العمودية، وان كان هم النهوض بالوطن وإعادة أمجاده خلاصة ما يطمح إليه «أدب الحجاز»، كما تعبر عن ذلك هذه المقتطفات: عبدالوهاب آشي (آلام وآمال: نحو أمتي ووطني) نفسي مروعة وقلبي يخفق والفكر في جو الظنون محلق في ليلة حاك الجمود ظلامها والهم أوسعني اضطراباً يقلق ما ذاق فيها الطرف من طعم الكرى سنة، وكنت كما يكون الشيق وأقض مضطجعي وأنهكني الأسى والهم يودي بالأبي ويؤرق ولكم أسوت القلب وهو موله وكففت دمعي وهو هام مغدق حزناً على أحوال أمتي التي ما زال يرديها الشقاق المعرق محمد صبحي (المجد المندثر) قف بالطلول وشاهد سيء الكلل واسكب دموع الأسى كالعارض الهطل واندب معالم أوطان عفت، ولها غر المفاخر من أيامها الأول أين الحضارة إذ كانت مرفوفة في رحب مغناك تدعو النفس للعمل قد كنت تبنين في الجوزراء منزلة شادت بناها يد الأقدار في زحل محمد حسن عواد (حقائق في الوطنية والاجتماع) متى نرتقي المجد الصريح المخلدا ونكتب في التاريخ فجراً مؤبداً متى نملك الشأو الرفيع جلالة ونرمي إلى العلياء سهماً مسدداً أنبغي المعالي بالتقاعس ضلة ونطلب عزاً في الخليقة رقداً أما وجلال المجد ما المجد مدرك بغير جهاد يجعل الشعب مسعدا أرونا بني الأوطان عزماً مجسماً أرونا بني الأوطان عزا مشيدا أرونا نهوضاً واتركوا اللهو واكتبوا على صفحات العصر ذكراً مؤبداً ولا تتوانوا ان سمعتم مقالة يرددها الشاني وقولاً مفندا يفيض على الأسماع والسمع مطرق محاسن أوروبا ويطري مردداً ويوحي إلينا ان للغرب عزة تربع منها هامة المجد مقعداً فردوا صداها واهجروا سوء قوله ولا توهمونا ان للغرب سؤددا وما هو إلاّ الجد من حاك خيطه تناول عن بعد سماكاً وفرقدا محمد عمر عرب (إلى الشرق المستكين) يا شرق هل نفدت قوا ك وهدك الخطب الكبير أم قد جبنت عن النضا ل وهالك الرزء الخطير بالأمس كنت مناضلاً تبغي الصدور أو القبور تسعى إلى العلياء لا تخشى مناوأة الدهور بالأمس كنت ورائد الاقدام يهديك الطريق واليوم فل مضاءك الحدثان هلا تستفيق محمد سعيد العامودي (ظلموك يا أم المدائن) القوم قومك والبنون بنوك والطامحون إلى العلا أهلوك إن جد جد الأمر يا «سورية» فهم الذين جنودهم تحميك عبدالقادر عثمان (دمعة على الشرق) كشف الساقي عن الثغر اللثاما فسقى القوم رضاباً ومداما وتجلى كعروس تزدهي في حلاها وعلاها تتسامى ... تلك والله سويعات الصفا حين كان الشرق للعز مقاما ... أين من شادوا المعالي أين من كسبوا بالسعي مجداً لا يسامى؟! واستمد الغرب من أنوارهم شعلة التمدين فازدادت ضراما أين من في الشرق كانوا شهباً رحموا الجهل فولى الانهزاما؟! عبدالوهاب النشار (إلى الوطنيين) وفي شرف الأوطان كل عظيمة تحقرها للمرء منقبة الفخر ولا بلد إلاّ إذا عز أهله عزيز وان ذلوا في ضيعة العمر محمد سرور الصبان (يا ليل) يا ليل صمتك راحة للموجعين أسا وكربا خففت من آلامهم ووسعتهم رفقاً وحبا أما ترى حدث الزمان أمضم عسفاً وغلباً المناجاة (محمد جميل حسن) على وطني العزيز تحيتي وسلامي على وطن العزيز الذي أحبه من شرقيه إلى غربيه ومن وديانه إلى جباله إلى رباه تحية الابن الصادق الاخلاص لأمه التي حضنته أيام صباه. حامد كعكي (كيف يجب ان نكون؟) نظرة إلى الماضي تكفي لأن نطلع منها على مجمل ما كان للحجازيين في القرون الأولى من الشأو الرفيع والمنزلة السامية بين جميع طبقات الشعب العربي في كل قطر». إن «الأدب» كان غريباً فوجد من يرده عن غربته، ويعيده من بعد قلة وفرقة عزة وقوة، وحين عاد على أيدي أولئك النفر من الأدباء الشبان كان قد أسدل ستاراً على أدب العصور المتأخرة، شعره ونثره، وفتح نافذة على العصر الذي ينتمي إليه، هذا ما تنبئ به تلك الفورة في تأكيد حضور الأدب - والحديث منه خاصة - والدعوة إلى الانفصال عن دواعي التقليد، وتم ذلك، وبصورة لافتة للنظر، في تكريس مؤسسات خاصة بتدشين معالم الأدب الحديث، ك «المكتبة الحجازية» التي أسسها محمد سرور الصبان في مكةالمكرمة، والتي قامت بنشر «أدب الحجاز»، و«المعرض»، و«خواطر مصرحة»، وكأنه أراد من وراء ذلك احداث قطيعة مع أشهر مطبعتين في مكةالمكرمة، وهما «الميرية»، و«الترقي الماجدية»، اللتان لم توليا الأدب اهتماماً يذكر، خاصة ان مضمون الكتب الثلاثة التي تمثل فاتحة الأدب الحديث لم تكن لتنسجم مع مضمون الكتب التي قامتا بنشرها. فبعد سنة من صدور «أدب الحجاز» جاء «المعرض، أو آراء شبان الحجاز في اللغة العربية: 1345ه/1926م» مؤكداً الحس الجماعي فيه، ومنتمياً إلى موضوع بالغ الحداثة، وهو ما أثارته مقالة «نقيق الضفادع» لميخائيل نعيمة في كتابه «الغربال» عن اللغة الأدبية، التي أزرى فيها على عدد من الكتّاب والأدباء المحافظين على النقاء اللغوي وقوفهم في وجه التجديد في الأساليب اللغوية والكتابية، والتي لخصها في مقولته النقدية الذائعة: «في الأدب العربي اليوم فكرتان تتصارعان: فكرة تحصر غاية الأدب في اللغة، وفكرة تحصر اللغة في الأدب»، فكان سؤال محمد سرور الصبان إلى رصفائه من شبان الحجاز: «هل من مصلحة الأمة العربية ان يحافظ كتابها وخطباؤها على أساليب اللغة الفصحى أو يجنحوا إلى التطور الحديث ويأخذوا برأي العصريين في تحطيم القيود اللغوية، ويسيروا على طريقة عامية مطلقة؟ فتفضلوا بابداء رأيكم وما يحملكم على ترجيح إحدى الكفتين من البراهين القاطعة والأدلة المعقولة عسانا نجد مجموعة من أقوال ذوي الاطلاع ما يساعدنا على تكوين رأي عام في هذا الموضوع». وبغض النظر عن الالتباس الذي حدث في فهم الصبان ورفاقه من شبان الحجاز لمقولة ميخائيل نعيمة تلك، وعدها دعوة إلى اللغة العامية، وهو ما لم يصرح به نعيمة؛ فإن الذي يسترعي النظر ان اتصالاً حقيقياً قد انطلق من مكةالمكرمة بالقضايا الأدبية والنقدية التي كانت مشتعلة في الأدب العربي الحديث في مصر والشام والمهجر، خاصة ان القضية المثارة، آنئذ لم تكن ببعيدة عن الأساليب الكتابية التي ضج بها الأدباء الشبان، وهم يجيلون أبصارهم فيما بين أيديهم من مؤلفات علماء مكةالمكرمة ومثقفيها، والتي لم تبارح، إلاّ فيما ندر، الأساليب الذائعة في العصرين المملوكي والعثماني، وان الأدباء الشبان الذين تألف وعيهم الأدبي في أم القرى، كانوا فيما يبدو قد نفضوا أيديهم مما يشتغل به القوم عى مقبرة منهم، ويمموا وجههم صوب المنابر الأدبية المشتعلة في الوطن العربي. وفي السنة ذاتها أصدرت المكتبة الحجازية في مكةالمكرمة أول كتاب فردي وهو «خواطر مصرحة» لمحمد حسن عواد، الذي لم يمنعه صدوره في مكةالمكرمة عن ان يبشر بقيم بالغة الحدة والجذرية، وان يتخذ من كتابه ميداناً للانحاء باللائمة على الثقافة التقليدية في الحجاز، وان يقترب، بصورة غير معهودة، من المناطق الشائكة في الثقافة والفكر والمجتمع، وان يعلن انتماءه إلى قيم الثقافة العربية المعاصرة، وان يفضل الثقافة الغربية والأدب الغربي على الثقافة العربية والأدب العربي! وأصبحت مكةالمكرمة نهباً لتحولات أدبية ما لبثت ان اتخذت من المنابر الصحفية وبخاصة صحيفتا «أم القرى: 1343ه/1924م»، و«صوت الحجاز: 135ه/1932م» مهاداً للجدل الأدبي والنقدي، وحضنا للأصوات الأولى في الشعر والقصة والنقد والمقالة، وان تكون صفحاتهما ساحة للمعارك النقدية والأدبية التي هي نموذج لما يشتغل عليه الأدب الحديث من قضايا واشكالات، وصورة مقربة لما أحدثه الوعي الأدبي الجديد من عوامل جذب إلى حماه، حتى غدا ما كان غريباً مجهولاً غاية المتعلمين وطلاب المدارس وموظفي الدولة الذين أرادوا ان ينتموا إلى دولة الأدب، هذه الدولة التي كانت رمزاً للعصرية والتقدم. وأصبح الأدب الذي ولد في مكةالمكرمة، جاذباً للجماء الغفير من الأدباء الذين قصدوها من نواح مختلفة من المدينةالمنورةوجدة والرياض، وكأن الرسالة التي تريد أم القرى ايصالها إلى الجميع أنها خلاصة المشهد الأدبي الذي شهدته العقود الأولى من ولاة المملكة العربية السعودية، وأنها استطاعت ان تقدم لقاصديها الثقافة التاريخية التي اشتهرت بها، قروناً متتالية، وان تقدم، كذلك الأدب الحديث الذي كان فاتحة أسئلة النهضة التي انطلقت من بطحائها، بعد ان عاشت الأجيال الجديدة من أدبائها ومثقفيها قلق التحولات في الأدب والفكر، ذلك القلق المبدع الذي كان من حسن حظ التاريخ الثقافي لمكةالمكرمة ان سجل بعض وقائعه محمد حسين هيكل، في أثناء رحلته الشهيرة إلى أم القرى، حيث قال: «وصبوة شباب مكة للحياة الحديثة قوية آخذة بنفوسهم تدفعهم إلى تتبع ما يكتب ويقال عن هذه الحياة، وإلى التعلق بما يظنونه من صورها وأمثالها. ويبلغ اندفاع بعضهم في هذا السبيل حداً يكاد ينكره ماضي البلد الحرام في العصور القريبة، بل يكاد ينكره حاضره ممثلاً في الجيل الذي تخطى الشباب إلى الكهولة».