النموذج الخلدوني لثنائية البداوة والحضارة يسير في حركة تطورية أحادية الاتجاه، بمعنى أن التغير يسير دائما من البداوة إلى الحضارة وليس العكس لأن التمدن، كما يقول ابن خلدون، غاية البدوي بينما لا يتشوف الحضري إلى أحوال البادية. أما في النموذج المحلي فإن المراوحة بين البداوة والحضارة أمر غير مستغرب، فقد نجد أن الأسرة أو الفخذ بكامله يتحول، لسبب أو لآخر، من البداوة إلى الحضارة أو العكس، حسب ما تمليه المصلحة والظروف. والتحول من البداوة إلى الحضارة عملية مستمرة لكنها تتم ببطء وعلى مراحل. حينما يصل البدوي إلى درجة من الفقر لا يملك معها راحلة لتحمله ولا شيئا من المواشي فإنه يضطر إلى الاستقرار فى إحدى القرى أو المدن (يهَثل) للبحث عن عمل يعتاش منه، كأن يعمل جمّالا أو راعيا لأهل البلدة أو سائقا لسوانيهم. أو قد يصل إلى درجة من الغنى وتكدس الثروة بحيث يصبح من المستحيل عليه أن يدير كل ما يمتلكه من قطعان الماشية مما يضطره إلى بيع بعضها واستثمار القيمة في شراء الدور والمزارع والعقارات ثم يصل بعد ذلك إلى مرحلة يجد فيها نفسه ملزما بالاستقرار في المدينة لإدارة أملاكه والإشراف عليها ومزاولة الأعمال التجارية. وقد يتحول الحضر إلى البداوة نتيجة جفاف الآبار أو استنزاف التربة أو اضطراب الأحوال السياسية. مثال ذلك قبيلة الحويطات التي يستنتج البعض من اشتقاق الاسم أنهم كانوا في الأصل فلاحين. وتردد الروايات الشفهية أن الزميل من سنجاره والدغيرات من عبده كانوا أصلا فلاحين ورعاة ماعز وشياه لا يتعدون شعابهم وجبالهم، ولم يقتنوا الإبل ويتوغلوا في الصحراء إلا مؤخرا بعدما قويت قبيلة شمر. وتذكر الرواية الشفهية أنه حينما مرت فلول شمر المنهزمة أمام عنزة في موقعة بيضا نثيل على مفتاح الغيثي، زعيم الدغيرات، وجدوه (يرغى)، أي يصنع الإقط من حليب الغنم، ولما طلبوه أن يترك (السوادين)، أي الغنم وبيوت الشعر، وينهزم معهم بالسلّة، أي الخيل والإبل والرجال، أجابهم بأنه وكل جماعته أهل سوادين، مما يعني أنهم لم يكونوا يملكون إلا الغنم وبيوت الشعر دون الإبل والخيل. والدغيرات يدعون أولاد علي ويقال إن علياً هذا كان في الأصل يحترف تأبير النخل لأهالي جو في منطقة أجا. وكانت له ابنة رائعة الجمال. وفي ذات يوم مر بها شباب من شبان القبيلة، الذين كانوا يحضرون إلى جو في الصيف لجني ثمار نخيلهم، فبهرهم جمالها لكنهم عابوها بأن أباها يعمل أبارا. ولما اشتكت الفتاة لأبيها وروت له ما حدث لها مع شباب القبيلة صمم الرجل على أن يثأر لكرامته ويثبت رجولته ونبل أصله. ودبر خطة تكفل له ذلك لكنه لم يشرع بها إلا بعد ارتحال القبيلة لأنه أراد أن يؤجل المواجهة معهم لحين يتم استعداداته. لما ارتحلت القبيلة عمد إلى مكان مشهور بجودة الملح وجلب منه حاجته وانكب على تجهيز ما يحتاجه من ملح البارود، وكانت البارود المستخدمة آنذاك هي النوع المسمى فتيل. وكان محتاجا لكمية كبيرة تكفيه مهما طالت المناوشات بينه وبين القبيلة حينما يحضرون في الموسم القادم. وفعلا لما توافدت القبيلة في الصيف لجني النخيل جلس لهم هو وأبناؤه في قمة الجبل الذي يحرس جو وصدهم عن دخول المكان وأعلن ملكيته المطلقة لجو ولا أحد يدخلها إلا بإذن منه ووفق شروطه هو. بذلك أصبحت جو ملكا للدغيرات. وبالإضافة إلى الفلاحين والبدو رعاة الإبل هنالك طرف ثالث يدخل ليضيف دليلا آخر على عدم دقة فرز أهل الجزيرة العربية إلى صنفين منفصلين ومتمايزين تمام التمايز: بدو وحضر. الطرف الثالث هم الشوايا، أو (الشاوية)، وهم البدو المتخصصون في تربية الماعز والضأن. وعلى خلاف أهل الإبل، لا يستطيع الشوايا التوغل في الصحراء ولا يحتملون مشاق النجعة البعيدة، لعدم استطاعة ماشيتهم على ذلك وحاجتها للماء بشكل يومي. هذا الصنف من البدو لا يربّون الخيول ولا يمارسون الغزو وليست لديهم النزعة الحربية التي لدى رعاة الإبل وغالبيتهم يدفعون أتاوة (خاوة) للقبائل القوية التي يعيشون في كنفها وتحت حمايتها، وعلى هذا الأساس يعدون أدنى منزلة من رعاة الإبل لكنهم مع ذلك من القبائل الأصيلة والنبيلة. وكثيرا ما يورد الشعراء مقطوعات شعرية يصفون فيها نبل رعاة الإبل وأفضليتهم وعدم استطاعة أهل الغنم مجاراتهم في بعد النجعة والارتحال. يقول ابن قويفل يمدح الشعلان بأنهم أهل إبل ينزلون بعيدا في الخلاء وليسوا أهل غنم: نَزل الخلا ما هم فراقين سِقسان ما سَقسِقوا للعنز تتلي ظَعَنهم ويقول ابن سبيل: مظهورهم كِن الطماميع تشعاه يتلي سلف خيّال من قرّبت به ياقِرب مسراحه وما ابعد معشّاه تِمسي محَوّشة الغنم تشتمت به ويقول نافع بن فضليه من بني علي من حرب: يِمطِر على دارٍ يِرِبَّه خليفان بالقيض رعيان الغنم ما يجونه ما يدهله ياكود خيلٍ وقطعان فيها النصي كن الغدارين لونه ويقول الشاعر ابو جري بعدما رحل عنه الشيخ جزاع بن عجل من عبده من شمر: شالوا على العتلات ما هن قَعادين طوال الخطا ما هن رحايل شواوي وِدّي بهم ياجري لو هم تعيبين لا شك ما عانق هل الخور شاوي بغيت اشيل وصار ما من بعارين هَلَ الندا شالوا وانا صرت ثاوي ويقول عدوان الهربيد من السويد من شمر موجها الكلام إلى جريس، ابن أخيه، قائلا له إننا أهل غنم نسوقها (نجل الحبص) ولا نستطيع مجاراة قبيلة الرمال في حلهم وترحالهم: جينا نِجِلّ الحبص جَلّ الوداعِ قرايفٍ ما بين رامي ومصفار نتلي مصلّح ناقته والمتاعي ربعٍ يدورون المغازي والاسفار هل الشداد مدَلّهين القطاع كم راس حيدٍ زوّلوا عنه الاشجار مِطنين راع الضان بالانقطاع ومرضين بعصير النزل كل صقّار ياجريس قِل عن دربهم بانهزاع ما ظَنّتي بارى هل القود حمّار ويقول صاحب غنم كان جارا لرفاعي ابن عشوان من شيوخ مطير يندب حظه لأنه راعي غنم لا يستطيع مجاراة رفاعي وجماعته من أهل الإبل. وفي البيت الأخير يسائل نفسه قائلا ما الذي حداني لمصاحبة هؤلاء حيث أنني لا أمتلك لا إبلا (أدوّه) لها ولا خيلا (أتاعي) لها، أي أناديها: شدّوا وشالن البني الجحاليف من فوق كل مشَرهَفٍ ما يباعِ وتقاودوا قحص المهار المزاغيف وقادوا لقطعانٍ يقودَه رفاعي وراعى الغنم ياخذ زمانين ما شيف غدت على ساقة هل البل ضياع مقسوم والا ما عليّه تحاتيف يا عاد لا مدَوّه ولاني متاعي وهكذا ينقسم أهل الجزيرة حسب نمط الإنتاج إلى حضر مستقرين يعملون في فلاحة الأرض، وشوايا شبه مستقرين يقومون على رعي الشاء والماعز، وبدو رحل يقومون على رعي الإبل. إلا أن هذه الفئات الثلاث، رغم تمايزها الإنتاجي ونمط حياتها اليومي، تشكل مع بعضها البعض طبقة الأصيلين، أي المنحدرين من أصول قبلية. التي تقابلها طبقة غير الأصيلين ممن لا ينتمون لأصول قبلية. لا يقل الحضري عن البدوي فخرا بانتمائه القبلي الذي يعد جواز المرور إلى طبقة الأصيلين. هذا يجعل الحضري ابن عم البدوي بحكم انتماء الاثنين إلى نفس القبيلة، بما يفترضه ذلك من تسلسلهما من نفس الجد. والمتوقع من أبناء القبيلة الواحدة، بدوهم وحضرهم، أن يتكاتفوا ويتآزروا ويعين بعضهم بعضا. ومما يعزز هذه العلاقة ويمنحها صفة الديمومة ما يقوم بين بدو القبيلة وحضرها من اتصالات مكثفة وزيارات متبادلة وتبادل خدمات ومنافع وتزاوج وتضامن وتكافل. ولا يقل حضر القبيلة عن بني عمهم البدو في تمسكهم بقيم البادية من كرم وشجاعة وربما شاركوهم في غزواتهم وفي أحيان كثيرة لا تكاد تميز لهجة البدوي منهم من لهجة الحضري. ويصطبغ الانتماء القبلي بين البدو والحضر بنظرة أرستقراطية تتحدد من خلالها المهام والأدوار التي يمكن للأصيلي ممارستها وتلك التي لا تليق به وتحط من قدره. من ينحدرون من أصول قبلية لا يليق بهم من الحرف إلا القتال والرعي وفلاحة الأرض والتجارة. أما ممارسة الحرف اليدوية والمهن الوضيعة فإنه مما يخدش في الأصل وربما أدى إلى الخلع من القبيلة. لذلك يتركون الحدادة والخرازة والجزارة والصياغة وما شابهها من الحرف إلى طبقة الصناع الذين لا ينتمون إلى أصول قبلية.