قال عليه الصلاة والسلام: (لا يحل لرجل مسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة يلتقيان فيعرض هذا، ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الشيطان يئس أن يعبد في جزيرة العرب ولذلك استعاض الشيطان عن ذلك بالسعي للإيقاع بين الناس واستغلال أي فجوة تقع بين أي من المسلمين رجالاً ونساءً، أقارب وأباعد فيقوم بتوسيع هذه الفجوة وفتح آفاق للخصام والعداوة والبغضاء، وتفريع الموضوع، وإثارة الشكوك والظنون في أمر هو من السهولة والهوان بمكان لو استعاذ المرء فيه من الشيطان، واستجاب لداعي الرحمن، ولذلك فإن الشيطان يستغل فيه هذه المشكلة حتى يصل الأمر إلى هجر المسلم لأخيه وقطيعته إياه.. ومما يلاحظ في السنوات الأخيرة انتشار ظاهرة القطيعة بين الناس سواء كانوا أقارب أو غيرهم.. فكيف تكون معالجة هذه الظاهرة من منظور شرعي واجتماعي؟ وما الوسائل المثلى للتصدي لها، وما يترتب عليها من إشكالات وعداوات وضغائن في المجتمع المسلم؟ هجر المسلم لأخيه يبين أ.د. عبدالعزيز بن عبدالله الهليل - عميد كلية أصول الدين بالرياض: أن دين الإسلام دين المحبة والوئام، دينٌ يجمع أتباعه على الأخوة الإيمانية، ويحثهم على التقارب والتآخي، ويحذرهم من التفرق والتباغض، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لاَ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تُؤمِنُوا، وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أوَلاَ أدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ). رواه مسلم. إن ظاهرة الهجر والتقاطع بين المسلمين من الظواهر الاجتماعية السلبية التي جاء الإسلام بالتحذير منها ومنع أسبابها، كما جاء الإسلام بتعزيز أسباب التواصل والتقارب والتآخي والتحابب، فعن أنس رضي الله عنه: أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَلاَ تَقَاطَعُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إخْوَاناً، وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أنْ يَهْجُرَ أخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ). متفق عَلَيْهِ، ولما كان التقاطع من الظواهر السلبية في المجتمع المسلم، والذي ينبغي أن يكون متآلفاً تسوده روح المحبة والأخوة، جعل النبي صلى الله عليه وسلم التقاطع مخالفاً لمعاني الأخوة الإيمانية، ولذا حرم النبي صلى الله عليه وسلم الهجر بين المسلمين فوق ثلاث ليالٍ، لأن النفس البشرية قد تتأثر ببعض المواقف وتتغير، ودين الإسلام دين الفطرة الموافقة لطبيعة النفوس البشرية، فجاء ليهذب هذه الطبائع ويلبسها لباس الخلق القويم والفطرة المستقيمة، فجعل للنفس حظها من العتب والغضب، ثم جعل لذلك حدَّاً لا ينبغي لها تعديه وتجاوزه ألا وهو ثلاث ليالٍ. علاج الهجر ويقدم د. الهليل علاج لهذه الظاهرة السلبية، وذلك من خلال التأدب بآداب الإسلام، والتخلق بأخلاقه العالية من المحبة والتآلف وحسن الخلق، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: إنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أحْسَنَكُمْ أخْلاَقاً. متفقٌ عَلَيْهِ، وكذلك تعليم النفس كظم الغيظ والعفو عن أخطاء الناس، امتثالا لقول الله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، إضافة إلى تعويد النفس على خلق التغاضي والتجاوز عن أخطاء الأقارب والأصدقاء والزملاء، لما في ذلك من الأجر العظيم، والثواب الجزيل، الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (أنَا زَعِيمٌ ببَيتٍ في ربَض الجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ المِرَاءَ، وَإنْ كَانَ مُحِقّاً، وَبِبَيْتٍ في وَسَطِ الجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الكَذِبَ، وَإنْ كَانَ مَازِحاً، وَبِبَيْتٍ في أعلَى الجَنَّةِ لِمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ). رواه أَبُو داود بإسناد صحيح، كما ينبغي الابتعاد قدر المستطاع عن أسباب الشقاق والنزاع، والذي من أهمها الجدال، والمخاصمة، والاستهزاء والسخرية، وتنقص الناس، مع المحافظة على الآداب الاجتماعية الحسنة التي رغب فيها الإسلام، والتي من خلالها تقوى أواصر المحبة والألفة، مثل: إشاعة السلام، وبشاشة الوجه عند اللقاء، والإكرام والحفاوة بالإخوان، ولين الكلام، وإجابة الدعوة، وعيادة المريض، والتهنئة عند حصول النعم، والتعزية عند حصول المصائب. ونحو ذلك. قطيعة الرحم ويقول أ.د. أحمد بن عبدالله الباتلي - أستاذ الدراسات العليا بقسم السنة وعلومها بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية: لقد حث الإسلام على صلة الرحم، فمن وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله. ولاشك قطيعة الرحم ذنب عظيم، يفصم الروابط، ويشيع العداوة، ويحل القطيعة والهجران، حيث إن قطيعة الرحم مزيلة للألفة والمودة، مؤذنة باللعنة وتعجيل العقوبة، مانعة من نزول الرحمة، ودخول الجنة، موجبة للتفرد والذلة.. وهي مجلبة لمزيد الهم والغم; ذلك أن البلاء إذا أتاك ممن تنتظر منه الخير والبر والصلة؛ كان ذلك أشدّ وقعاً، وكفى بهذا الذنب زاجراً قوله تعالى:{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ). الأسباب ويعدد د. الباتلي أسباب قطيعة الرحم: عدم المعرفة بعواقب القطيعة: العاجلة والآجلة يحمل عليها، ويقود إليها، كما أن الجهل بفضائل الصلة العاجلة والآجلة يُقْصِر عنها، ولا يبعث إليها، وضعف التقوى: فإذا ضعفت التقوى، ورق الدين لم يبالِ المرء بقطع ما أمر الله به أن يوصل، ولم يطمع بأجر الصلة، ولم يخشَ عاقبةَ القطيعة، وكذلك بعد المسافات و زحام الطرقات يجعل البعض يتكاسل عن زيارة أرحامه، فعليه أن يحتسب الأجر في صلة الرحم فلو كان لغرض ماديٍ لسافر من أجله ! وكذا الانقطاع الطويل: فهناك من ينقطع عن أقاربه فترة طويلة، فيصيبه من جرَّاء ذلك وحشةٌ منهم، فيبدأ بالتسويف بالزيارة، فيتمادى به الأمر إلى أن ينقطع عنهم بالكلية، فيعتاد القطيعة، ويألف البعد، إضافة إلى العتاب الشديد: فبعض الناس إذا زاره أحد من أقاربه بعد طول انقطاع أمطر عليه وابلاً من اللوم، والعتاب، والتقريع على تقصيره في حقه، وإبطائه في المجيء إليه. ومن هنا تحصل النفرة من المجيء; خوفًا من لومه، وتقريعه، وشدة عتابه، مع التكلف الزائد: فهناك من إذا زاره أحد من أقاربه تكلف لهم أكثر من اللازم، وخسر الأموال الطائلة، وأجهد نفسه في إكرامهم، وقد يكون قليل ذات اليد. ومن هنا تجد أن أقاربه يُقْصرون عن المجيء إليه; خوفًا من إيقاعه في الحرج، ومن ذلك تأخير قسمة الميراث: فقد يكون بين الأقارب ميراث لم يقسم; تكاسلاً، أو لأن بعضهم عنده شيء من العناد، أو نحو ذلك. وكلما تأخر قسم الميراث، وتقادم العهد عليه؛ شاعت العداوة والبغضاء بين الأقارب، وتكثر المشكلات فتحل الفرقة، وتسود القطيعة، إضافة إلى الشراكة بين الأقارب: في مشروع، أو شركة ما دون أن يتفقوا على أسس ثابتة، ودون أن تقوم الشركة على الوضوح والصراحة، بل تقوم على المجاملة، وإحسان الظن، فإذا ما زاد الإنتاج، واتسعت دائرة العمل دب الخلاف، وحدث سوء الظن، ومن هنا تسوء العلاقة، وتحل الفرقة، وكذلك الاشتغال بالدنيا: واللهث وراء حطامها، فلا يجد هذا اللاهث وقتاً يصل به قرابته، ويتودد إليهم، ومن ذلك الطلاق بين الأقارب: فتكثر المشكلات بين أهل الزوجين، وقلة تحملِ الأقارب والصبرِ عليهم: فبعض الناس لا يتحمل أدنى شيء من أقاربه، فبمجرد أي هفوةٍ، أو زلةٍ، أو عتابٍ من أحد من أقاربه يبادر إلى القطيعة والهجر، ومن ذلك نسيان الأقارب في الولائم والمناسبات: فربما نسي واحدًا من أقاربه، وربما كان هذا المنسيُّ ضعيفَ النفس، أو ممن يغلب سوء الظن، فيفسِّرُ هذا النسيان بأنه تجاهل له، واحتقار لشخصه، فيقوده ذلك الظن إلى الصرم والهجر، وكذلك الحسد: فهناك من يرزقه الله علماً، أو جاهاً، أو مالاً، أو محبة في قلوب الآخرين، فتجده يخدم أقاربه، ويفتح لهم صدره، ومن هنا قد يحسده بعض أقاربه، ويناصبه العداء، ويثير البلبلة حوله، ويشكك في إخلاصه، وكذلك كثرة المزاح: فإن لكثرة المزاح آثارًا سيئة; فلربما خرجت كلمةٌ جارحة من شخص لا يراعي مشاعر الآخرين فأصابت مقتلاً من شخص شديد التأثر، فأورثت لديه بغضًا لهذا القائل. ويحصل هذا كثيرًا بين الأقارب; لكثرة اجتماعاتهم، قال ابن عبد البر رحمه الله: «وقد كره جماعة من العلماء الخوض في المزاح; لما فيه من ذميم العاقبة، ومن التوصل إلى الأعراض، واستجلاب الضغائن، وإفساد الإخاء». ويقدم د. الباتلي علاج قطيعة الرحم، قائلاً: ما أجدر المسلم أن يحْذَرَ قطيعة الرحم، وأن يتجنب الأسباب الداعية إليها، وما أحرى به أن يصل الرحم، وأن يَبُلَّها بِبلالها، وأن يعرف عظيم شأن الرحم، ويتحرى أسباب وصلها، ويرعى الآداب التي ينبغي مراعاتها مع الأقارب. فما صلة الرحم؟ وبأي شيء تكون؟ وما السبل والأسباب المعينة عليها؟ وما الآداب التي ينبغي مراعاتها مع الأقارب؟ فالتواصل ضد التصارم. وعن صلة الرحم: قال ابن الأثير: وهي كناية عن الإحسان إلى الأقربين من ذوي النسب والأصهار، والعطف عليهم، والرفق بهم، والرعاية لأحوالهم، وكذلك إن بعدوا وأساءوا، وقَطْعُ الرحمِ ضد ذلك كله. ويتساءل د. الباتلي بأي شيء تكون الصلة؟.. ويقول مجيباً: تكون بأمور عديدة; فتكون بزيارتهم, وتفقد أحوالهم, والسؤال عنهم, والإهداء إليهم, وإنزالهم منازَلهم، والتصدق على فقيرهم, والتلطف مع غنيِّهم, وتوقير كبيرهم, ورحمة صغيرهم وضعفتهم, وتعاهدهم بكثرة السؤال والزيارة: إما أن يأتي الإنسان إليهم بنفسه, أو يصلهم عبر الرسالة, أو المكالمة الهاتفية. وتكون باستضافتهم, وحسن استقبالهم, وإعزازهم, وإعلاء شأنهم, وصلة القاطع منهم. وتكون أيضًا بمشاركتهم في أفراحهم, ومواساتهم في أتراحهم, وتكون بالدعاء لهم, وسلامة الصدر نحوهم, وإصلاح ذات البين إذا فسدت بينهم, والحرص على تأصير العلاقة وتثبيت دعائمها معهم. وتكون بعيادة مرضاهم, وإجابة دعوتهم. وأعظم ما تكون به الصلة, أن يحرص المرء على دعوتهم إلى الهدى, وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر..وهذه الصلة تستمر إذا كان الرحم صالحة مستقيمة أو مستورةً. ومما يحسن ذكره في دعوة الأقارب, ونصحهم أنْ يُنَبَّهَ على مسألة مهمة في هذا الباب, ألا وهي إحسان التعامل مع الأقارب, والحرص على دعوتهم باللين, والحكمة, والموعظة الحسنة, وألا يدخل معهم في جدال إلا في أضيق الحدود، وبالتي هي أحسن; لأنه يلحظ على كثير من الدعاة قلة تأثيرهم في أسرهم وقبائلهم. وذلك يرجع إلى عدة أسباب, ومنها أن الدعاة أنفسهم لا يُوْلُوْن هذا الجانب اهتمامهم, ولو بحثوا في السبل المثلى التي تعين على ذلك؛ لأفلحوا في دعوة أقاربهم، ولأثَّروا فيهم أيما تأثير. ولعل من أهم تلك السبل أن يتواضعوا لأقاربهم, وأن يولوهم شيئاً من الاهتمام, والصلة, والاعتبار, ونحو ذلك مما يحببهم بالأقارب, ويحبب الأقارب بهم. كما أن على الأسرة أو القبيلة أن ترفع من شأن دعاتها, وعلمائها, وأن تجلهم, وتصيخ السمع لهم, وأن تحذر كل الحذر من تحقيرهم, والحطّ من شأنهم..فإذا سارت الأسر على هذا النحو كان حريَّاً بهم أن يرتقوا في مدارج الكمال, ومراتب الفضيلة. الأمور المعينة على الصلة ويؤكد د. الباتلي أن هناك أمور تعين على صلة الرحم; فمن ذلك وضع دليل الأقارب: فيحسن بالأقارب أن يقوم بعضهم بوضع دليل خاص, يحتوي على أرقام هواتف القرابة ثم يطبع ويوزع على جميع الأقارب, فهذا الصنيع يعين على الصلة, ويذكر المرء بأقاربه إذا أراد السلام عليهم, أو دعوتهم للمناسبات والولائم، والاجتماعات الدورية: سواء كانت شهرية أو سنوية أو غير ذلك, فهذه الاجتماعات فيها خير كثير; ففيها التعارف, والتواصل, والتواصي, وغير ذلك خصوصاً إذا كان يديرها أولو العلم, والحصافة، مع وضع صندوق القرابة: الذي تجمع فيه تبرعات الأقارب واشتراكاتهم, ويشرف عليه بعض الأفراد, فإذا ما احتاج أحد من الأسرة مالاً لزواج, أو نازلة, أو غير ذلك بادروا إلى دراسة حاله, وساعدوه ورفدوه; فهذا مما يولد المحبة, وينمي المودة، وكذلك مقابلة إساءة الأقارب بالإحسان: فهذا مما يبقي على الودّ، ويهون على الإنسان ما يلقاه من شراسة أقاربه وإساءتهم، ولهذا أتى رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ فَقَالَ: (لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمْ الْمَلَّ وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنْ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ)، فهذا الحديث عزاء لكثير من الناس ممن ابتلوا بأقاربَ شرسين, يقابلون الإحسان بالإساءة, وفيه تشجيع للمحسنين على أن يستمروا على طريقتهم المثلى; فإن الله معهم, وهو مؤيدهم, وناصرهم, ومثيبهم، وقبول أعذارهم إذا أخطأوا, واعتذروا، والصفح عنهم ونسيان معايبهم, حتى ولو لم يعتذروا: فهذا مما يدل على كرم النفس, وعلو الهمة، والتغاضي والتغافل: وهما من أخلاق الأكابر والعظماء, ومما يعين على استبقاء المودة, واستجلابها, وعلى وأد العداوة وإخلاد المباغضة، مع ترك المنة عليهم, والبعد عن مطالبتهم بالمثل: فالواصل ليس بالمكافئ, فمما يعين على بقاء المودة أن يحرص الإنسان على أن يعطي أقاربه ولا يطالبهم بالمثل, وألا يَمُنَّ عليهم بعطائه, أو زياراته, أو غير ذلك، والحرص على توطين النفس على الرضا بالقليل من الأقارب: فلا يستوفي حقه كاملاً, بل يرضى بالقليل من أقاربه, حتى يستميل بذلك قلوبهم, ويبقي على مودته لهم، ومراعاة أحوالهم, وفهم نفسياتهم, وإنزالهم منازلهم. فمن الأقارب من يرضى بالقليل, فتكفيه الزيارة السنوية, وتكفيه المكالمة الهاتفية, ومنهم من يرضى بطلاقة الوجه والصلة بالقول فحسب, ومنهم من يعفو عن حقه كاملاً, ومنهم من لا يرضى إلا بالزيارة المستمرة, وبالملاحظة الدائمة; فمعاملتهم بمقتضى أحوالهم يعين على الصلة, واستبقاء المودة، إضافة إلى ترك التكلف مع الأقارب ورفع الحرج عنهم. وهذا مما يغري بالصلة; فإذا علم الأقارب عن ذلك الشخص أنه قليل التكلف, وأنه يتَّسم بالسماحة حرصوا على زيارته وصلته، مع الاعتدال في المزاح مع الأقارب: مع مراعاة أحوالهم, وتجنب المزاح مع من لا يتحمله، والمبادرة بالهدية إن حصل خلاف مع الأقارب؛ فالهدية تجلب المودة, وتكذب سوء الظن, وتستل سخائم القلوب، وتعجيل قسمة الميراث؛ لئلا تكثر الخصومات والمطالبات, ولأجل أن تكون العلاقة بين الأقارب خالصةً صافيةً من المكدرات. هجر المسلم أخاه المسلم ويقول الشيخ عادل بن محمد العُمري - المحاضر بقسم الدراسات الإسلامية بجامعة القصيم: ليس أمر العلاقات الاجتماعية وحقوق الإنسان بالأمر الذي يُتساهلُ فيه، ولا بالأمر الذي يُترك لتأتي له بحلول مع تطاول الزمن؛ ذلك لأنه يمسُّ العلاقات الأخوية بين المسلمين، وبين العائلة الواحدة، وبين أبناء البلد الواحد، وما تحريم التهاجر بين الناس إلا لصيانة هذه العلاقات وحمايتها من التدهور، فالتهاجر ينافي روابط الأخوة وبخاصة الأخوة بين المسلم وأخيه المسلم، ومن هنا حرَّمَ الإسلام على المسلم أن يجفو أخاه المسلم، ويقاطعه، ويعرض عنه، ولم يرخص للمتشاحنين إلا في ثلاثة أيام حتى تهدأ ثائرتهما، ثم عليهما أن يسعيا للصلح والصفاء والاستعلاء على نوازع الكبر والغضب والخصومة، عن أبي أيوب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرضُ هذا، ويعرضُ هذا، وخيرهما الذي يبدأُ بالسلام» رواه البخاري ومسلم. وتتأكد حرمة القطيعة إذا كانت لذي رحم أوجب الإسلام صلته، وأكد وجوبها ورعاية حرمتها، قال تعالى: {َاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (1) سورة النساء. وصوَّرَ الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الصلة ومبلغ قيمتها عند الله فقال: «الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله». وقال: «لا يدخل الجنة قاطع». فسره بعض العلماء بقاطع الرحم. وليست صلة الرحم الواجبة أن يكافئ القريب قريبه صلة بصلة وإحسانا بإحسان، فهذا أمر طبيعي مفروض، إنما الواجب أن يصل ذوي رحمه وإن هجروه، قال عليه السلام: «ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قُطعتْ رحمه وصلها» رواه البخاري، وهذا ما لم يكن ذلك الهجران لمصلحة، وقد هجر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الثلاثة الذين خلفوا في غزوة تبوك خمسين يوماً حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم، ولم يكن أحد يجالسهم أو يكلمهم أو يحييهم حتى أنزل الله في كتابه توبته عليهم، وهجر النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه أربعين يوماً، وهجر عبد الله بن عمر ابناً له إلى أن مات ، فالزيادة على ثلاثة أيام في الهجر مقيد بالمصلحة، فإذا اقتضت المصلحة الهجر لاسترداد حق, أو لثنيه عن باطل، فيجوز فوق ثلاثة أيام؛ كما فعَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، أما إذا كان الهجر يترتب عليه مفسدة، وشرٌ أكبر، فإنَّ الأولى ترك الهجر بهذه الحالة، وبخاصة إذا كان الهجران والتشاحن لأمور دنيا، فإن الدنيا لأهون من أن تؤدي إلى التدابر وتقطيع الأواصر بين المسلم وأخيه. وإذا كان على المتخاصمين أن يصفيا ما بينهما وفقا لمقتضى الأخوة، فإن على المجتمع واجبا آخر؛ فإن المفهوم أن المجتمع الإسلامي مجتمع متكامل متعاون، فلا يجوز له أن يرى بعض أبنائه يتخاصمون أو يتقاتلون، وهو يقف موقف المتفرج، تاركا النار تزداد اندلاعا، والخرق يزداد اتساعاً، بل على ذوي الرأي والمقدرة أن يتدخلوا لإصلاح ذات البين متجردين للحق، مبتعدين عن الهوى، كما قال تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (10) سورة الحجرات.