الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين من أبرز علماء هذا العصر، ومن بقية السلف الصالح من العلماء العاملين، تحلى بتاج التواضع فوضع الله عز وجل له في قلوب الناس محبة كبيرة وثقة عظيمة، فكان قوله قول الصدق الذي لا تستطيع قوله حذام. كان عمله مسخراً في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى ودينه القويم، بذل العلم دون كلل، ووقف مع الدعاة وقفات صادقة عوناً وتقويماً ونصحاً لله ولرسوله ولأبنائه الدعاة فكان قريبا إلى القلوب. عرف عن سماحته رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة وجمعنا به في جنات النعيم بالجد في العمل ولم تمنعه ظروفه الصحية وكبر سنه من التنقل بين مدن المملكة للدعوة والتعليم والتربية، وما سفره في مرضه الذي مات فيه رحمه الله إلى مكة في شهر رمضان وهو يعاني قسوة الألم، ليكون قريباً من المعتمرين في موسم الشهر الكريم ومعرفته بحاجة الناس في هذا الموسم للتعليم والفتوى وضرورة اغتنام المناسبات للدعوة والتربية على الخير والهدى سوى دليل ليس هو أقوى دليل على جهاده العلمي القولي والفعلي. وهو رحمه الله تعالى لم يغلق هاتف منزله في وجه مستفتٍ أو طالب علم، في أي ظرف أو وقت، بل كان يقابل ذلك كله بالبشاشة والمرح والدعابة اللطيفة في مكانها، برغم ما كان يصيبه بسببه من اجهاد وإرهاق من جراء ذلك، ولكنه محتسب الأجر من الله تعالى والمحتسب لله يرزقه من حيث لا يحتسب، يرزقه صبراً وقدرة وتوفيقاً. وكان عليه رضوان الله ورحمته مدركاً أهمية المنبر الدعوي حريصاً عليه، عبر خطبته الاسبوعية في الجامع الكبير بعنيزة، وقد عرف عنه انه كان يسافر من الرياض او من مكة او من الطائف إلى عنيزة ليلقي خطبته ثم يعود إلى مكانه الذي كان فيه، دون أن يظهر تبرماً او تراخياً. الحق الذي لا مرية فيه أن موت العلماء مثل سماحة الشيخ ابن عثيمين ثلمة في الدين نسأل الله ان يخلف على المسلمين فيها وأن يعوضهم خيراً فإن الله عز وجل كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البخاري في كتاب العلم عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله لا يقبضُ العِلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رءوسا جُهالا فسئلوا فأفتوا بغير علمٍ فضلُّوا وأَضَلُّوا . لقد رأينا مصداق قول نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم في عصرنا الحاضر، رأيناه في حوارات الانترنت ومواقعها، حيث الجرأة على الفتوى والقول على الله بغير علم، وحيث ظهرت الحاجة إلى مثل العلامة الفاضل الشيخ محمد العثيمين، ورأينا تحديداً كيف يقضى على الأقوال الشاذة بفتوى من هذا العالم الجهبذ يحصحص بها الحق وتستنير العقول. هكذا كنا بالامس وفينا أمثال ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله، فهل آن لنا اليوم وقد ودعنا سراجاً مضيئا وقمراً طالما بدد ظلمات الجهل وسوء الفهم عند كثير من الناس ان نقول: معضلة ولا أبا بكر لها؟؟ لقد عرفنا العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين وعرفنا فيه قدرته العجيبة على الاستنباط الدقيق من الأدلة الشرعية ما ينير حقائق المعضلات. حين انقطع الوحي من السماء لم يبق للبشر من الأدلة القاطعة في المعضلات الحادثة إلا ما يقذفه الله في قلوب وبصائر بعض عباده العلماء من الفهم والقدرة على الاستنباط من الكتاب والسنة، وكان العلامة ابن عثيمين واحداً ممن اصطفاهم الله بذلك. لقد بكيناك يا شيخنا الحبيب، وشعرنا بفاجعة فقدك، ليس لأنا لا نعلم أنك راحل فكل البشر راحلون عن هذه الدار الفانية، وليس لأنا لا نعلم ما أعد الله لك من رضوانه وجنانه فنحن نحتسبك عند الله من ورثة الانبياء العاملين. إنما نبكيك ألما وحسرة وكمداً بكاء أم أيمن رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبكاء الصديق والفاروق رضي الله عنهما لبكائها بعد ان نبهتهما إلى الفاجعة التي تركها موت نبي الهدى صلى الله عليه وسلم. روى الإمام مسلم في كتاب فضائل الصحابة عن أنس رضي الله عنه قال قال أبو بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها فلما انتهينا إليها بكت فقالا لها: ما يُبكيك؟ ما عند الله خيرٌ لرسوله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما أبكي أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خيرٌ لرسوله صلى الله عليه وسلم ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها . نعم نبكي ذلك العلم الذي هو ميراث محمد صلى الله عليه وسلم، كنا نغترفه منك بيانا صافيا واستنباطا دقيقا وحجة دامغة تنير للمستفتي ما خفي عليه علمه، وتوضح للجاهل طريقه المأمون. إذا بكينا تواضع العلماء فلا لوم علينا وفيك تواضع العلماء,, وإذا بكى الفقراء وذوو الحاجة البشاشة والعون والشفاعة فيه فلا لوم عليهم ولك في ذلك أوفر الحظ والنصيب,, وإذا بكى الكتاب مادته العلمية الرصينة فلا لوم عليه، وكتبك تنطق بالعلم الرصين والنفع بإذن الله. إنما أنت أيها الشيخ الفاضل كشجرة طيبة اصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها وسيبقى علمك وعملك ثمار تلك الشجرة يدعو لك كل من طعِمَهُ أو انتفع به. وإعلانا لمحبتي للشيخ محمد بن صالح العثيمين في الله وعرفاني بكريم فضله وغزير علمه كم يغمرني الامل ليس بجمع فتاوى هذا العلامة الجهبذ، فما أكثر الذين تصدوا ويتصدون لهذا الأمر في الماضي والحاضر، وما أكثر الذين سيفزعون إليه في المستقبل، بل الذي آمله شيء أكبر وأعمق اثراً من مجرد جمع فتاوى الشيخ، ذلكم هو ان يستفرغ عدد من طلبة العلم من تلاميذ الشيخ او من محبيه جهودهم وأوقاتهم وقدراتهم الفكرية في جمع استنباطات الشيخ الدقيقة من الكتاب والسنة، ونشرها في كتاب لتعرف الأمة فضل هذا الرجل العظيم، وما أنار الله به بصيرته من العلم والفهم. إنني أدرك ان هذا العمل العلمي لكي يظهر بالصورة المأمولة يحتاج إلى تخطيط مدروس وجهود ضخمة متعاونة، وإلى دعم مادي ليس بالقليل، وما أظن الأمير الفاضل عبدالعزيز بن فهد بن عبدالعزيز إلا حرياً بهذا الأمر وحقيقاً عليه,, وبالله التوفيق.