يصادف هذا العام عدداً من الاحتفالات بأحداث مرتبطة بالزعيم الفرنسي منذ نابليون. فقد ولِد شارل ديجول قبل مائة وعشرين عاما في ليل. وتوفي قبل أربعين عاماً في بيته في كولومبي ليه دو إيجليسز على إثر إصابته بنوبة قلية أثناء ممارسته للعبة السوليتير في إحدى الأمسيات. وقبل سبعين عاماً ألقى خطابه الشهير الذي دعا فيه إلى المقاومة عبر إذاعة البي بي سي بعد أن طار إلى لندن بعد انهيار فرنسا في يونيو - حزيران 1940. ويصادف هذا العام أيضاً ذكرى سنوية أقل فوزاً بالاهتمام، وهي المناسبة التي أظهر فيها ديجول كيف يمكن الجمع بين العزيمة، والبراعة السياسية، والقدرات البلاغية، وتوجيه كل ذلك في التصدي للمعارضة العنيدة. لقد كانت لحظة بالغة الأهمية في عملية تأسيس الجمهورية الخامسة، التي لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا. وقد لعبت حرب الجزائر دوراً رئيسياً في تمكين ديجول من العودة إلى السلطة في مايو - أيار 1958، وكان آنذاك في السابعة والستين من عمره. وعلى الرغم من أن مذكراته رسمت صورة مشخصة لزعيم كان على خير دراية بما يفعل، فإن البحث الذي أجريته في إطار تسجيلي الجديد لسيرة حياة هذا الرجل يظهر أن سياسته في التعامل مع الأزمات في مختلف أنحاء البحر الأبيض المتوسط كانت تجمع بين الأمل والإحباط. فكان يأمل أن تتمكن فرنسا من فرض هيمنتها على المؤسسة العسكرية التابعة لجبهة التحرير الوطنية، وكان محبطاً بسبب الموقف السياسي الذي بلغ حالة شديدة من الفوضى على أرض الواقع، وصعوبة إقناع المستوطنين بأن الحفاظ على الوضع الراهن أمر غير وارد. وفي عام 1958 قال في العاصمة الجزائرية أمام حشد مؤلف في الأساس من أوروبيين استوطنوا الجزائر أثناء احتلال فرنسا لها: «لقد فهمتكم». ولكن في عام 1960 كانت مشاعر البغض قد حلت محل الابتهاج الذي ساد أولاً بين هؤلاء الذين استخدمهم لاستعادة منصبه، ولكنهم أصبحوا ينظرون إليه باعتباره خائناً بعد نجاح النظام الذي جلبه إلى الوجود في تحييده. وكان العامل التي حفز ما أطلِق عليه فيما بعد «أسبوع المتاريس» تلك المقابلة التي نشرت في الصحيفة الألمانية سودويتشه تسايتونج التي أجريت مع قائد سلاح المظلات الجنرال جاك ماسو، التي ذكر فيها أن جزءاً من الجيش شعر بالندم بعد أن دعا إلى عودة ديجول إلى السلطة، وأنه لم يفهم سياساته، وأصيب بخيبة الرجاء لأنه أصبح «رجلاً من اليسار». والواقع أن ماسو بوصفه من أنصار ديجول كان لابد أن يمتنع عن الحديث عن مثل هذه الحقائق المحلية علناً، مهما كانت درجة إحباطه. فسرعان ما تم إبعاده إلى منصب ثانوي في فرنسا أحد أقاليم فرنسا. وبعد اجتماع عاصف مع ديجول في قصر الإليزيه، أجرى ماسو اتصالاً هاتفياً مع رئيس أركانه العقيد أنطون أجرو، الذي كان يلح في المطالبة بانقلاب. ثم كانت الدعوة إلى إضراب عام، وأقام الطلاب المولعون بالقتال المتاريس في قلب العاصمة الجزائرية. وحين هاجمتهم قوات الشرطة بالغاز المسيل للدموع، فتح الأوروبيون من مستوطني الجزائر النار. وفي المعركة التي أعقبت ذلك قتل نحو أربعة عشر من قوات الأمن وثمانية من المتظاهرين وأصيب نحو مائتي شخص بجراح. وأعلن الإيديولوجي المتطرف جان جاك سوسيني أن الساعة قد حانت لإسقاط النظام: «إن الثورة ستبدأ من الجزائر ثم تصل إلى باريس». كان ديجول آنذاك في كولومبي، ولكنه عاد على الفور إلى باريس. ويذكر أحد المسؤولين الذين رأوه في ممر القصر أنه كان يتمتم قائلاً: «يا له من أمر! يا له من أمر!». وفي اجتماع لمجلس الوزراء أصر على أن تحدي الجمهورية الجديدة لابد وأن يُخمَد. ثُم أرسِل رئيس الوزراء ميشيل دوبريه إلى العاصمة الجزائرية، ولكن المتمردين عاملوه بازدراء، فطار عائداً صُفر اليدين. وانتشرت شائعات عن تأسيس حكومة ظل من قِبَل المتطرفين في باريس. وقيل إن أعضاء المؤسسة العسكرية الرئاسية كانوا يحملون المسدسات. ثم استدعى ديجول خليفة ماسو الجنرال جان كريبان وقال له: «إن الأوروبيين لا يريدون للعرب أن يختاروا بأنفسهم، ولكن المسلمين لا يريدون الانتماء إلى بريتاني. وإذا انهار الجيش فهذا يعني انهيار الجزائروفرنسا». ثم أتت اللحظة الحاسمة حين ذهب ديجول في زيه العسكري إلى مبنى التلفزيون ليستعرض قدرته على السيطرة على الوسيلة الإعلامية الجديدة. وقال: «حسناً يا بلدي العزيز القديم، ها نحن أولاء نواجه اختباراً صعباً». وكان يؤكد بإصرار على أن تقرير المصير هو السبيل الوحيد إلى الأمام، ودعا الجيش إلى رفض أي ارتباط ولو كان سلبياً بالتمرد ووجه إلى قادة الجيش تعليماته بإعادة ترسيخ النظام العام. وحذر قائلاً: «إذا رضخت الدولة أمام التحدي الذي تواجهه فإن فرنسا قد تصبح كلعبة مكسورة مسكينة تطفو على بحر من عدم اليقين». وفي غضون خمس عشرة دقيقة من اختفاء وجه الجنرال من على الشاشة، أعلنت أربعين وحدة من وحدات الجيش في الجزائر ولاءها له. وتم إقناع الرجال عند المتاريس بترك معاقلهم؛ أما قادة التمرد فإما اعتقلوا أو فروا إلى إسبانيا. وكانت هزيمة التمرد العسكري على هذا النحو بمثابة المرة الأولى التي تتغلب فيها السلطة الجمهورية في باريس على المستوطنين الأوروبيين الذين ساعدوا في إسقاط الجمهورية الرابعة. والواقع أن حزم ديجول وبلاغته الخطابية وافتقار المتمردين إلى البراعة من الأمور التي ساعدت في ترسيخ سيادة الدولة. وفي اليوم التالي كان وجه ديجول يبدو عليه الإرهاق، ولكنه كان حازماً وممتلئاً بالطاقة. أما الوزراء الذين تعاطفوا مع المستوطنين، وأبرزهم جاك سوسيتيه الذي كان من أنصار ديجول لفترة طويلة، فقد أقيلوا. ثم منحت الجمعية الوطنية ديجول سلطة الحكم بمرسوم لمدة عام. ونظمت النقابات العمالية إضراباً رمزياً دام ساعة واحدة في دعم الحكومة. وأكد استطلاع للرأي أن 75% من المستجيبين يدعمون الجنرال. وهكذا سَلِمَت الجمهورية الخامسة من الأذى، وفُتِحَت صفحة جديدة في كتاب التاريخ. أما مشاعر الازدراء التي كان ديجول - وهو رجل من الشمال - يكنها للمستوطنين الانفعاليين عبر البحر فقد تعمقت. وبعد عامين من نجاح صلابة ديجول في صد انتفاضة ثانية، انتهى الأمر إلى إبرام اتفاقية إيفيان للسلام بين فرنسا وجبهة التحرير الوطني التي قضت باستقلال الجزائر. خاص (الجزيرة) جوناثان فينبي مؤلف كتاب «الجنرال: شارل ديجول وفرنسا التي أنقذها»