يترك الشاعر يحيى جابر قصيدته تهذي على سجيتها، وتفضحُ مكنونَ دلالاتها بكثيرٍ من التلقائية والمباشرة، فتظهر لغته عاريةً، صادمةً، تقودها ارتجاليةٌ متحرّرة من كلّ قيدٍ أو ضبط، وتصلنا مثخنة بالصرخات والخطابية العالية، حيث الرّاوي الشعري يقفُ في أتون الحدث، محاصراً بصراعات طاحنة مستعرة، عاطفية وأيديولوجية وتاريخية، مسرحها أقبية الذات وشوارع العالم، ويتمخّض عنها خسارات كثيرة، وهزائم شخصية لا تُحصى. في ديوانه الجديد «حبّ في الغسالة»، الصادر عن دار رياض الريس، (2010)، ينقضّ جابر على المحكي والشفوي ليقنص منه إروتيكا المكبوت والممنوع، مذوّباً إياه في استعارات شبقة متوحّشة، تتفاوت درجة نقائها وشعريتها وجماليتها، من قصيدة إلى أخرى، على رغم تمترس اللّغة خلف المفارقة السوداء، والدعابة المريرة، التي تساعد في سحب القارئ إلى شركها، وتؤجّج درجة التفاعل بينه وبين النصّ، باتكائها على أسلوبية ماغوطية بارزة، واستخدامها أدوات التشبيه كافّة، وعلى رأسها كافُ التشبيه الحادّة كنصل. يقدّم جابر الواقع، المتخيّل أو التاريخي، نيئاً، صادماً، وقاسياً، معفّراً بتراب الخطيئة، من دون تنميق أو صقل، جاعلاً اللغة تنزف، وتتوجّع، وتصرخ من هول ما ترى. وقد جاء ديوانه في جزءين، الأول بعنوان «حب في الغسالة» ويتضمّن قصائد طويلة، ذات نفس سردي، متقطع ولاهث، تتوغّل في سيرة ذاتية ناقصة، شخصية وجمعية، مملوءة بالفجوات والغيابات لطفل يولد في عراء شاسع، شخصي وديني واجتماعي وعاطفي، وتحتل مخيلته صور الحرب الأهلية، وفي الجزء الثاني «علامات بلا نصر» تسجيل حار ومفارق وساخر، للحظات خاطفة وموجزة، تركت أكثر من جرح نازف في وعي المتكلم، وتستحضر صوراً دامية لحرب تموز الأخيرة، حيث تميل اللغة هنا إلى الاقتضاب والتكثيف، وتصبح القصيدة لوحةً مرسومة بضربة ريشة واحدة، حاسمة ونهائية، كما في قصيدة «الضاحية» التي تكثّف صورة المكان والحدث في لقطة واحدة: «هنا الضاحية/ جدارٌ معلقٌ بخيط/ من برواز. / أهلي على الأرض/ جداريةٌ من زجاج» (ص 132). ومنذ البداية، ينزل بنا الشاعر إلى قاع بيروت، شارعاً شارعاً، وحائطاً حائطاً، ويسمّي ساحاتها ومشافيها ومفارقها، لنسمع أزيز الرصاص، وصراخ الضحايا، وولولة الأمّهات، وأنين المخطوفين، وبكاء المومسات، وحشرجة السكارى. نرى المدينة تحتضر بين أيدي الشاعر، وهو يصف سقوطها المأسوي: «أفكفككِ شارعاً تلو شارعٍ/ أقضم أزرارك كحبّات صنوبر،/ أحلّ زنار مستديراتكِ/» (ص 100)، والمتكلّم في قصيدة جابر متسكّع صعلوك، خبر البارات والنوادي الليلية، ومشى في الأزقّة الضيقة، ونام في مخافر الشرطة، وعُذّب على الحواجز، وفي أقبية المليشيات. وهو يقدّم نفسه هنا كشاهد عيان يطوف في جحيم المدينة، منتظراً الكارثة، من رصيف إلى رصيف: «نابشاً كعب الحانات/ ثاقباً ظلامكِ/ أتلصّصُ عليكِ يا بيروت ... أكرجُ على اسفلتكِ كخاتم» (ص 98) وبيروت الحلم تسقط في التهلكة رويداً رويداً، ولا يرى الناظر في مداها الجريح سوى متاهة من جدران تتناسل وتتناسخ: «ألفُّ من مستديرةِ الطيّونة/ حتى مستديرة ساسين .../ يا إلهي/ كلّ الخطوات تؤدي إلى مستديراتٍ/ من جدران» (ص 142) يذهب جابر إلى موضوعه مباشرة، ويشتبك معه بالسلاح الأبيض، ناقلاً شذرات من سيرته الذاتية، وزاجاً بصوته الشّخصي في كلّ ما يرى ويسمع، معلناً حرب الكلمات على بعضها، واقتتال الصور مع الصور، ومتأمّلاً وحلَ المشهدِ بعينٍ لا يرفّ لها جفن: «وحلٌ في السرير/ وحلٌ في المصافحات/ وحلٌ على حريرِ جملةٍ مفيدة» (ص 81)، والوحلُ، كما يراه جابر، يدخل إلى أحلام غرفة النوم، ويلطّخ أكفّ البشر وقلوبهم، ويلوّث اللّغة ذاتها، شرط الكائن في الكينونة. هذا الوحلُ المجازيُ يصيبُ عنوانَ المجموعةِ ذاتها، إذ يشير «حبّ في الغسالة» إلى السقوط المريع للمثالية العشقية الأفلاطونية، وانهيار رومانس الحب، عاطفةً وحلماً، وسقوط العاشق نفسه عند مستديرات المدينة ومتاريسها، فالحبّ لن يخرج من غسالة الحرب سليماً، ولن يخرج من غسّالة اللّغة أكثر بياضاً ونقاءً، لأنّ غسّالة جابر «معطّلة» كما يشير بصراحة في الإهداء الذي يفتتح الديوان: «إلى سهى وزكريا كانا يوماً/ في غسّالتي المعطلة» (ص15). ويحتّمُ هذا القدرُ انتظارَ نهايةٍ قاتمة للحلم الطوباوي حيث يخرج الحب من غسّالة الرغبة، معطوباً، ومكسوراً، ومعفّراً بآثام الحقيقة. وهذا إعلان صريح، بلا رتوش أو غمغمة، عن نهاية الغنائية العذرية في قصائد الحب، ونهاية الزّمن الفردوسي الرّومانسي، الذي أزهر يوماً على إيقاع طواحين الهواء، وخفق الأغاني الفيروزية، فالرواي في قصيدة جابر لا يصحو من كابوس إلاّ ليقعَ في كابوسٍ آخر، وغسّالته النفسية والعاطفية لا تؤدّي به إلاّ إلى مزيدٍ من انكسارات القلب: «أرى فجراً يبزغُ من غسالةٍ معطلة/ فجراً مدمى/ إنه القلب المرمي في السلّة» (ص 122)، ولعل أبلغ تعبير عن هذا السقوط قول جابر في قصيدة «يا ابراهيم»: «الأرضُ وقعت/ في منامِ السكين» (ص 153)، ليؤكّد أنّ الحلم الطوباوي بالخلاص لم يبق منه سوى بريق النصل، وذاك الجرح النازف في جسد التاريخ واللغة معاً. وتطلّ القسوةُ برأسِها في معظم قصائد الديوان، حتى الغزلية منها، ونتعرّف على شذرات من سيرة ذاتية، موغلة في الكابوسية، وموقّعة بالشغب واللّهو والتمرّد، في بيئة سريالية تتستّر على مصائرِ أفرادِها ونهاياتِهم العبثية: «ذات مساء/ في مقهى/ أخبروني أن فاطمة رشّت الكاز على رأسها/ أشعلت عودَ كبريت أمام زوجِها/ وتكوّمت برمادِها في منفضة الصالون.» ص (25)، وتتكرّر مشاهدُ عنفٍ مشابهة، في أكثر من صفحة، فالقصائد ليست وحدات دلالية مقفلة، ولا تتمتع ببنية فنّية صارمة، بل تنفتح على بعضها، وتسرق بعضها بعضاً، إذا جاز التعبير، والقاسم المشترك بينها هو صوت الرّاوي، الذي يرصد تفاصيل الحدث، ويفضح دموية المشهد، مستعيداً شريط حروب لا تهدأ: «دم بين إذاعتين/ وثكنتين./ دمٌ بين المزارات/ دمٌ بين الموج وزاورق النجاة» (ص51) وإذا كانت قوافل الموتى تمرّ، في مدينة عقدت العزم على القفز إلى الهاوية، لا يجد شاهدُ العيان هنا بدّاً من إعلان ولائه للجحيم، أو ربّما للموتى الأحياء، بوصفه حارساً أميناً على كهفهم: «سأبقى كلباً/ كلباً ينبحُ خلف قافلةٍ تسير/ نحو/ الهاوية» (ص 166)، وهذه إشارة ساخرة إلى أن دور الشاعر قد تبدّل في زمن الخراب، ولم تعد وظيفته أن يكون رائياً أو بطلاً أو حكيماً، بل شاهد عيان لم توفّر عقله شظايا الحرب، فيخرج من الركام، مكسوراً، ومعطوباً، بلا حبّ أو حبيبة، يسرد لنا الحكاية، بوصفه الناجي الوحيد، على إيقاع غسّالةٍ معطّلة، في مدينة الجحيم. ومن التحديق في جحيم المدينة، تولد سخرية يحيى جابر ومفارقاته القاتمة، هو السابح عكس التيار، والمنتمي لشعرية القاع، منذ دواوينه الأولى، فلغته لا تهبط من معجم نخبوي، صاف ومعقّم، بل تخرجُ من شقوق غرف النوم، وأفواه الموتى، وصراخ المهزومين. لغةٌ تتكئ على المحكي والشفوي، وتصقل الخطابيةُ طبعَها الارتجالي، فتحضر، بكامل شوائبها وضجيجها ونزقها، أكثر نأياً وبربريةً وأصالةً.