ما لبث أن استفاق أبناء الشعب السعودي على فراق والدهم الحنون منذ ستة أشهر الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وقبل أن ينتهوا من خلع ثياب الحداد السوداء على رحيل مليكهم الغالي في ال23 من كانون الثاني (يناير)، إلا وآبت دموع الحزن إلى محاجرهم مجدداً لتفيض فراقاً على وزير خارجيتهم السابق سعود الفيصل، إثر تناقل نبأ وفاته ليلة أمس (الخميس) ليكون العام ال15 بعد الألفية الثانية عاماً للحزن السعودي. الوداع الثاني والأخير، بعد وداعهم الأول له قبل نحو شهرين من الآن، إثر ترجله من صهوة جواد «الخارجية» بناء على طلبه، بعد مسيرة استمرت نحو 40 عاماً، كان الفيصل فيها خير لسان، وأقوى صورة دبلوماسية للدولة السعودية؛ عاصر خلالها خمسة ملوك سعوديين، وزيراً للخارجية، وممثلاً للسياسة السعودية الدولية. رجلٌ في أيقونة دولة، ودولة في أيقونة رجل، حمل على عاتقه تجسيد مواقف نحو 27 مليون سعودي في الكثير من المحافل والأزمات السياسية، وقال فيها ما جال في صدورهم وما عجزت عن قوله جغرافية وطنٍ أرسى جده ووالده قواعدها، ليقف إلى جانب أعمامه الأربعة، قوياً أميناً وخير مستشار لهم. «متون» الفيصلي لم تحمل هم السعوديين فحسب، بل حملت هموم إخوته العرب والمسلمين بشكل عام، طوال مسيرته الحافلة بالمواقف التاريخية المشرفة، التي تجسدت بدفاعه الدائم عن قضية المسلمين الأبرز، القضية الفلسطينية، التي لطالما كانت حاضرة في كل مؤتمراته الصحافية، ولقاءاته الدبلوماسية في العالم أجمع، ولعل تعبيره في الاجتماع الاستثنائي لمنظمة التعاون الإسلامي العام الماضي والذي أكد فيه أن القضية الفلسطينية هي القضية الأولى لبلاده خير دليل على ذلك. القضية الفلسطينية لم تكن وحدها ما يشغل بال وزير الخارجية السعودي السابق، بل جسد الفيصل مواقف رجولية حفرت أسمه في التاريخ العالمي الحديث، وذلك بمشاركات عدة قادها إلى جانب الملوك المتواترين، ابتداء من المصالحة اللبنانية في الطائف، ومروراً بالحرب العراقية الإيرانية، وحربي الخليج الثانية والثالثة، إضافة إلى مشاركات المملكة في حروبها على الإرهاب العالمي، والمواقف السعودية من التنظيمات الإرهابية في العالم كله، ليدافع سعود عن دينه وسماحته قبل أن يثبت مواقف بلاده. ثبات المواقف السعودية، التي ظهرت من خلال سعود الفيصل، لم تتأثر قيد أنملة باعتلالات الراحل الصحية، التي على رغم ما عاناه منها إلا أنه صمد في ووجهها، مبدياً مصلحة وطنه على صحته، التي ظهرت من خلال عدد من الصور الفوتوغرافية ومقاطع الفيديو التي خرج من خلالها سعود الفيصل واضعاً دعامة للرقبة تارة، وتارة أخرى متوكئاً على عصاه، ليكون خروجه الأخير في حديثة إلى مجلس الشورى السعودي على كرسي متحرك، شبه من خلاله حاله بحال الأمة العربية في وضعها الراهن بعد تأثرها بالربيع العربي.