انه عالم الرجال بامتياز ذلك الذي يتراءى في معرض الفنانة التشكيلية ريم الجندي، الذي تقيمه في غاليري جانين ربيز (الروشة - بيروت)، متضمناً مجموعة من الأعمال تشير الى تيمات عديدة ومتنوعة تتعلق بسطوة الحضور الذكوري على جوانب كثيرة من حياتنا المعاصرة، وتأثيراتها على المستوى المحلي الراهن والعالمي الأوسع. وتبقى المقاربة الشخصية لموضوع جريء يخترق التابوات تحت عنوان جامع هو «رجال»، قيد التأمل والتمحيص والنقاش مما يضع المعرض برمته في منطقة استفزازية وربما عاطفية وخيالية، مشحونة بالتوتر والانفعال والحلم والسخرية. في لوحاتها الأربع والعشرين (مواد وتقنيات مختلطة على قماش) تعكس الفنانة بصورة غير مباشرة ردود الفعل التي عاشتها إزاء مسألتي الإقامة والهجرة باحثة عن كيانها الوجودي بين أعطاف المدينة التي تحبها والأمكنة التي ألفتها. لذا تأتي المشاهد المقطوفة من أحياء بيروت الشعبية والبرجوازية على السواء شديدة الواقعية، وتعكس تناقضات العيش فيها، من خلال تجسيد واجهات أبنيتها وشرفاتها لا سيما تلك المزدانة بالستائر المقلّمة من كل الألوان على نحو مثير للدهشة والغرابة، لكأن حال الأبنية هي من حال سكانها. ولئن كانت واجهات أبنية بيروت منفّذة بإحساس دقيق في الملاحظة، فهي تأتي بمثابة خلفيات أو ديكورات جذابة أضحت من الأشياء اللافتة لغرابتها، أو هي مجرد ذرائع لحضور الأمكنة (كعنصر جامد ومستقر) على ضوء المنحى التشخيصي للرجال (كعنصر يمثل الحركة والريبة الخاطفة) بحبائلهم ورياضاتهم في ملاعب كرة القدم أو انخراطهم الحزبي في جماعات أو نزهاتهم وتأملاتهم العابرة وأحلامهم المعلقة كالغيوم على شاطئ البحر أو في سقوطهم العشوائي مع ظلالهم المتعاكسة (ربما المشاكسة) من الأعلى إلى الأسفل. ثمة لوحات أخرى تعيدنا إلى أزمنة غابرة كصيد الوعول، وأخرى تنقلنا إلى وقائع وأحداث مأخوذة من تأثيرات الصورة المتلفزة. هكذا تطل أعمال ريم الجندي في تقصّياتها ذات الأبعاد السوسيولوجية وبحثها عن المضامين الاعتراضية واستدعاء الموتيفات الزخرفية التراثية، على مسافة قريبة من التجارب «الصوَرية» الجديدة الصاعدة في الفنون العالمية، لا سيما في الفنون الإيرانية المعاصرة. بين البوب- آرت والكيدج، ثمة أشياء هجينة ومشوشة تتدافع إلى اللوحة كي تقول أشياء كثيرة دفعة واحدة وفى آن واحد. لعلها أشياء محيّرة آتية من ثقافة وخبرة وبحث عن الذات والبوح بطرق مواربة تستعين برموز ميتولوجية (فينيقية) كرمز بعل وتانيت، وأخرى ايقونوغرافية وطيور مجنحة وموتيفات تذكر بالمنمنمات الإسلامية. وفي أعمال ريم الجندي يوجد الأعلى والأسفل من اللوحة، هما الأرض والفضاء والواقع والحلم المعلق في قبة السماء كنجمة بعيدة أو ملاك حارس. السقوط والطيران حالتان متناقضتان من حالات الحركة، ما بين الارتقاء إلى الحلم أو الوقوع عن حافة الوجود الى الهاوية من شدة اليأس. منقلبان للحرية يعيشهما الإنسان متقاطعاً مع ظله، والظل ذو حضور شعري استعاري مستقل، يأتي في خضم التقاطعات الكثيرة، التي لا تقتصر على الظلال المرافقة فحسب، بل نجد الماضي يتقاطع مع الحاضر، والديني- الإيديولوجي مع الراهن اليومي، والروحاني مع الإباحي- المجازي والمبتذل مع البطولي، وكذلك العلاقة بين الحقيقة والخيال، والزمان والمكان. لطالما كان الطيران حلم ايف كلين الذي ترك بصمة بارزة في الحقبة التي أسست الواقعية الجديدة في فرنسا، والصورة الفوتوغرافية الشهيرة التي التقطت له وهو يطير من أعلى البناء لم تكن سوى خدعة حققت حلماً في اكتشاف الفضاء بل العلاقة مع الفراغ واللانهائي والشعور بالحرية والعبث. هذه العلاقة التي لا يمكن أن نجد لها توافقات إلا في إيهامات الصورة السينمائية. ولعل سوبرمان الذي استحوذ على مخيلة جيلٍ بأكمله لم يكن سوى الصورة الاستهلاكية الرائجة لمقولة صراع الخير ضد الشر، والقوة التي تتمثل في الطيران. من هذا المقترب لصورة الرجل الخارق وعلى طريقة البوب- آرت الأميركي تأتي لوحة سوبرمان لريم الجندي شبيهة بالملصق الدعائي، لتعكس أبرز مثلٍ عن قوة الرجل الخارق وهيمنته على المخيلة الشعبية. وتحت عنوان «عزيزي آندي» تقترح الفنانة صيغة التكرار للصورة الواحدة كنموذج متطابق مع أعمال آندي وارهول ذات الطبيعة الاستهلاكية. ولئن كانت الايقونوغرافيا المعاصرة هي الصورة- الإعلان، في الحتمية المادية التي تهيمن على أنماط العيش، فما بالك بالايقونوغرافيا الدينية الآتية من الأيقونة البيزنطية الشرقية، حيث ترفرف الملائكة بأجنحتها في العالم الروحاني المجرد للفضاء الحلمي الذي يشع بأوراق الذهب؟ هكذا تظهر ازدواجية العلاقة بين المادية والروحانية في تموضعات الرجال الذين تستوقفهم ريشة ريم الجندي. فأشخاصها جاسمون كالمنحوتات، جالسون أو واقفون على خلفيات باهرة في غبش ضبابي أو تمويه لوني أو حلة زخرفية كالسجاد. لا يمكن فصل اللوحات عن شخص الفنانة وأفكارها ورؤاها وتجاربها ومعاناتها. فالموضوع ليس ركيزة فحسب بل محرض ودافع على إبراز العناصر المرئية وتوليفاتها. وما بين العلاقات التصادمية للألوان التي تبعث على القوة والصلابة والسطوع واستخدام أوراق الذهب في مزج غير اعتيادي، يبدو الفحوى الدرامي وكأنه يتلطى خلف قناع مثل القناع البرونزي للوجه الأيقوني، الذي يحيلنا الى الأيقونة البيزنطية الشرقية، وأحياناً تكون العلاقات اللونية بسطوعها وتناقضاتها بمثابة قناع ظاهري، يصدم العين ويؤجل الشعور بفجيعة سقوط الرجل، حتى يكاد يتحول السقوط مجرد فكرة يمكننا أن نرميها من النافذة على الأرض أو كشيء مجازي أو لنقل كحال افتراضية. لذا تقول الفنانة «إن الموضوع هو حجة فحسب، واللوحة ملعب تختبئ فيه الأسرار، لا شيء يظهر كما هو».