في منزل يتكون من أربعة طوابق، وتبدو عليه آثار الثراء، تقف أمامه سيارات حديثة ومتطورة، في حي النزهة الهادئ في العاصمة عمان، وعلى مقربة من مسجد عمار بن ياسر، كان يعيش همام خليل (أبو ملال) البلوي، المعروف بأبو دجانة الخراساني. همّام هو المسؤول، وفقاً لبيانات «القاعدة» و «طالبان» والتسريبات الأميركية، عن التفجير الانتحاري في قاعدة خوست، قبل أيام، والذي سقط فيه سبعة ضباط من الاستخبارات المركزية الأميركية مع النقيب الأردني زيد بن علي، وهو من الأشراف (أقرباء العائلة المالكة)، الذي أقيمت له مراسم عزاء في الديوان الملكي، فيما لم تؤكّد الرواية الرسمية الأردنية (إلى الآن) ما جاء في رواية «طالبان» وفي التسريبات الأميركية بأنه قد سقط في ذلك التفجير نفسه. ما تزال قصة التفجير وشخصية أبو دجانة لغزاً، لم تتكشف تفاصيله بعد، مع ظهور الشريط المسجّل الذي يظهر فيه أبو دجانة قبل تنفيذ العملية، مصدر الغموض في القصة يكمن في التفاصيل. فعلى رغم اتفاق بيان «طالبان» مع الرواية الأميركية بأنّ أبو دجانة هو منفذ العملية، وأنه «عميل مزدوج»، تمكّن من تضليل الاستخبارات الأردنية والأميركية لمدة عام كامل، فإنّ السؤال الملحّ لدى كثير من المراقبين: كيف تمكّن الرجل، وهو يحمل الحزام الناسف، من دخول القاعدة الأميركية المحصّنة من دون تفتيش، وكيف تمكّن من خداع الاستخبارات الأردنية والأميركية عاماً كاملاً، ولم يستطيعوا أن يكتشفوا أمره؟ الرواية الرسمية الأردنية تبدو أكثر تحفظاً، إذ تشير إلى أنّ الشخص المذكور، وهو همام البلوي، كان قد تم التحقيق معه قبل عام تقريباً، من قبل الاستخبارات الأردنية، ثم أطلق سراحه، لعدم وجود أدلة ضده، ورغب لاحقاً بإكمال دراسة الطب في باكستان، ثم اتصل هو بالاستخبارات الأردنية، مؤكداً لها امتلاكه معلومات قيمة عن القاعدة وطالبان، ما دفع الاستخبارات إلى الاهتمام بهذه «المعلومات الثمينة»، وتبادلها مع الحلفاء في الحرب على الإرهاب، والتواصل معه. أيّاً كانت الرواية الأدق، فإنّ جميع التفاصيل تشير إلى أنّنا أمام شخص استطاع خداع الاستخبارات الأميركية والأردنية، وتقديم معلومات لهم كطُعم، والوصول بهما إلى درجة من الثقة الكبيرة به، حتى تمكن من تنفيذ عمليته، التي تعد ضربة قاسية للاستخبارات الأميركية. غموض في الشخصية الواقعية المفارقة أنّ الاستخبارات الأردنية استطاعت، تاريخياً، اختراق «القاعدة» وتجنيد عشرات الأعضاء داخلها، خلال العقود السابقة، في سياق صدام أمني كبير بين الطرفين، ما مكّنها من إحباط عمليات كبيرة ضد الأردن، والحصول على معلومات ثمينة. لكنها اليوم تستدرج مع الاستخبارات الأميركية من خلال هذا الشاب، في اختراق أمني سيمثل، بلا شك، حالة دراسية مستقبلاً، ويمثل «نقلة نوعية» في قدرات «القاعدة» الأمنية، وفي لعبة الاستخبارات في العالم. تبدو شخصية أبو دجانة الخراساني - الإلكترونية أكثر وضوحاً بالمقارنة مع الشخصية الواقعية لهمام خليل البلوي، الطبيب الأردني الشاب. بعد بدء تسرب أخبار التفجير، ومسؤولية أبو دجانة عنه، اتخذت الأجهزة الأمنية إجراءات عدة لتحول دون تحول الأسرة إلى مادة إعلامية، تحرج السلطات الأردنية، فمنعت الأسرة من فتح بيت للعزاء، خوفاً من أن يتحول لمكان للخطابات السياسية الساخنة وموقعاً للمعارضة السياسية. كما اعتقلت الأجهزة الأمنية الأخ الأصغر لهمام، أسعد، الذي يعمل مهندساً في وزارة التربية والتعليم، وكان اعتقل هو الآخر لبعض الوقت، سابقاً، في أعقاب مسيرة احتجاجاً على العدوان على غزة، بالقرب من السفارة الإسرائيلية في عمان. همام من مواليد عام 1977، وينتمي إلى عائلة متدينة محافظة، تعود في أصولها إلى منطقة بئر السبع، وله تسعة أشقاء من الذكور والإناث، والده موجه تربوي عمل في دولة الكويت، وعاد مع أسرته إلى الأردن بعد حرب الخليج 1991. أنهى الثانوية العامة بتفوق كبير، فحصل على معدل 96.5 في المئة، ودرس في تركيا الطب بمنحة من الدولة الأردنية، وهناك تزوج من فتاة تركية، تعمل في مجال الصحافة والترجمة، وله منها ابنتان، ثم عاد إلى عمان ليسكن بجوار أهله في شقته بمنزلهم الكبير، وعمل طبيباً في عدة مستشفيات، آخرها مع وكالة «أونروا» للاجئين الفلسطينيين. تبدو المفارقة الرئيسة أنّ رواد مسجد عمار بن ياسر، بجوار المنزل، لا يعرفون همام، إذ لا يتردد بصورة دورية ومستمرةً، كما هي حال إخوانه وأبيه، وهم معروفون بالاعتدال، وكان والده يلقي الدروس في المسجد إلى وقت قريب. اعتُقل في بداية العدوان الإسرائيلي على غزة، أي قبل قرابة عام، بعد أن اكتشفت الأجهزة الأمنية نشاطه الإلكتروني في «المنتديات الجهادية»، واستمر في الاعتقال ما يزيد على أسبوعين، وخرج من السجن وبقي أسابيع قليلة، ثم سافر إلى باكستان، بعد أن أخبر أهله أنه ذاهب إلى تركيا لإكمال دراسة الطب. في رواية «طالبان» و «المنتديات الجهادية» أن الاستخبارات الأردنية عملت على تجنيده خلال مرحلة الاعتقال، وأنها أرادت استثمار اسمه المعروف، «أبو دجانة الخراساني»، لزرعه داخل القاعدة والحصول على صيد ثمين، يتمثّل بمعلومات عن الرجل الثاني، أيمن الظواهري. يروي مقربون من أهله أن أخباره انقطعت عن أسرته، منذ خروجه من الأردن، قبل عدة أشهر، إلى أن تلقوا اتصالاً هاتفياً من شخص بلكنة أعجمية، يبلغهم فيه أن ابنهم هو منفذ عملية خوست. وإلى هنا تنقطع أخبار الطبيب الشاب همام، وعلاقته مع الناس، إلى حين إعلان تنفيذه العملية الانتحارية في قاعدة خوست. ملامح شخصية همام لا تبدو واضحة تماماً في ظل غموض ما يزال يسيطر على جزء كبيرٍ من حياته، وبسبب السياج الأمني الرسمي المضروب حول عائلته، والذي يمنع الحصول على معلومات تصل الحلقات المفقودة ببعضها إلى الآن. من هو أبو دجانة الخراساني؟ ثمة أسئلة عديدة تخلق فجوة واسعة بين شخصيتي همام خليل الواقعية وأبو دجانة الخراساني الإلكترونية، ثم الجهادية! ففي أوساط السلفية الجهادية في عمان، كثيرون يعرفون أبو دجانة الخراساني، من خلال شبكة الانترنت، لكن لا تجد أحداً، إلى الآن، يعرف أنّ الطبيب الأردني همام خليل، هو الاسم الحقيقي لأبي دجانة الخراساني. حتى عندما اعتقلت الاستخبارات العامة همام، كان ذلك بعد «الرصد الإلكتروني» للشبكة العنكبوتية و «المنتديات الجهادية»، وليس لارتباطه بمجموعات على علاقة بالسلفية الجهادية، ثم مواصفات همام الشخصية مختلفة كثيراً عن سمات أفراد التيار في الأردن ومستوى تحصيلهم العلمي، فيما تؤكد زوجته التركية أنه لم يكن يحب مغادرة المنزل. إذن، كيف تمّ تجنيد الرجل في «القاعدة»، وهل حدث ذلك في تركيا؟... لا توجد مؤشرات، ولا محطات في مساره تؤكد ذلك، أما في عمان فقد تبين أن همام غير معروف لدى هذه الجماعات، وليس له علاقة تنظيمية معها!... الاحتمال الأقرب، ما لم تتكشف معلومات أخرى تناقضه، أنّ همام جرى تجنيده من خلال شبكة الانترنت، و «المنتديات الجهادية»، التي أصبحت عالماً افتراضياً واسعاًَ، مليئاً بالشخصيات والأسماء الحركية، والمعلومات والعلاقات الإلكترونية، التي يتوارى خلفها «مشروع جهادي» عالمي تتبناه «القاعدة»، ويناصره آلاف من رواد هذه المنتديات. وذلك ينقلنا إلى شخصية أبو دجانة الخراساني، التي تشكلت ملامحها وأبعادها بصورة واضحة من خلال الشبكة العنكبوتية. من يرصد كتابات أبو دجانة الخراساني يصدم باللغة الرشيقة التي يمتلكها، والثقافة الواسعة، واطلاعه على المشهد الإعلامي العربي والعالمي، وإطلالته الجيدة على ما يكتب عن «القاعدة»، إذ يشير إلى كتابات روبرت فيسك وعبدالباري عطوان وغيرهم، بالإضافة إلى محصوله الوافر من التراث الإسلامي والأدب العربي، وقد وظف كل ذلك في مقالاته ومساهماته في المنتديات. ويبدو أنّ نشاط أبو دجانة الإلكتروني بدأ في عام 2007، وبرز كمتابع متميز لنشاط «القاعدة» في العراق وأفغانستان، معجب جداً بشخصية أسامة بن لادن، ويعده أسطورة القرن، يبدو ذلك جلياً في مقاله واسع الانتشار، ذائع الصيت «في داخلهم أسامة صغير»، ويضمنه استنتاج بأنّ أسامة بات رمزاً للأمة الإسلامية ومحط أنظار الملايين، حتى من يخالفونه في الفكر والمنهج والدين. وفي مقاله «لماذا يكرهون أبا عمر البغدادي؟» تبدو ملامح أكثر في شخصية أبو دجانة، وتأثره غير المعلن بشخصية سيد قطب، المفكر الإسلامي المصري، الذي أعدمه الرئيس المصري جمال عبدالناصر في عام 1966، ويحاكي، في كثير من الأحيان، أسلوب قطب بالكتابة وتأكيده على مفهوم الصراع الحضاري والكوني، وعلى حاكمية الشريعة، وعلى حتمية سيادة مبادئ الإسلام وقيمه في المعمورة الأرضية. لعلّ أكثر ما يساعد على ربط الخيوط بين شخصيتي أبو دجانة الخراساني وهمام خليل، الطبيب الأردني، ومساراته وتحولاته، هي المقابلة التي أجراها معه موقع «طلائع خراسان» الإلكتروني، بعد سفره إلى باكستانوأفغانستان، والترحيب ب «نفيره إلى بلاد خراسان» وتحقق أمنيته التي اكتسب منها كنيته «الخراساني». يشير الرجل إلى أن علاقته بمنتديات الحسبة الجهادية الشهيرة بدأت من خلال مقال كتبه في البداية عن «خطة بغداد» وتوقع فشلها، ثم بدأ المسؤولون عن الشبكة يقربونه، حتى جعلوه أحد المشرفين والكتّاب الرئيسيين في المنتديات، وبدأت شهرته الإلكترونية تتسع، حتى أصبح معروفاً لأغلب رواد المنتديات الجهادية. لكن ما الذي دفع بالشاب الأردني همام إلى فكر الجهاد وإلى دخول منتديات «الحسبة»، على رغم عدم وجود علاقات واضحة له بالجماعات الجهادية على الأرض؟... يجيب على ذلك همام نفسه بالقول «لقد جبلت على حب الجهاد والشهادة منذ صغري، ولقد كنت أستمع إلى القرآن الكريم خاشعاً ومتمنياً نيل شرف الجهاد والشهادة عندما أكبر ويشتد عودي، وكنت أتساءل هل سأبقى محباً الجهاد وطالباً الشهادة عندما أصير رجلاً أم أنني سأصبح مثل من حولي ممن يعتبرون الجهاد فكراً خيالياً وضرباً من الجنون...». إذاً، ثمة دور كبير لعبته التنشئة الدينية وسط أسرة متدينة محافظة، ووالد مثقف له قراءاته واهتماماته الأدبية، في صوغ البعد الجهادي في شخصية همام منذ الطفولة. ويضيف همام «نما معي هذا الحب، وإن كان قد تعرض لنكسات في مراحل من حياتي المختلفة...، إذا دخل حب الجهاد قلب رجل فلن يدعه وإن أراد هو ذلك، وإن حاول النسيان أو التناسي...». لا يخبرنا همام عن طبيعة تلك «النكسات»، لكنه يؤكد أنّه بقي أسيراً لما غرس فيه منذ الصغر من حب للجهاد والاستشهاد. ذلك النزوع في شخصية همام، جُبل بالحروب والأزمات المحيطة، بما يحدث في العراق وتحديداً فلسطين، إذ يشير بعض أصدقاء همام إلى أنّ العدوان على غزة الأخير، أثّر عليه كثيراً، وكان نقطة تحول في حياته ومزاجه الشخصي. يتبدى صدى غزة في حديث همام المرير عن مشاهد الضحايا من الأطفال والنساء والمدنيين «صور جثث الأطفال هناك وقد رصت أروقة المستشفيات وارتسمت على محياهم براءة طاهرة ما دنستها بشاعة الجريمة حتى ما عدنا نميز إن كانوا نياماً أو قتلى...!». في المقابلة ذاتها يبرز الاهتمام الكبير لهمام بالمنتديات الجهادية المعروفة، مثل «الحسبة» و «البراق» و «الإخلاص»، وإعجابهم بالشخصيات الشهيرة على مواقع المنتديات الجهادية، ما يشي بالدور الكبير الذي لعبته هذه المواقع في التأثير على أبو دجانة وعلى تفكيره ومسار حياته وصولاً إلى قيامه بذلك التفجير. المفاجآة التي يمكن الحصول عليها في مراجعة أرشيف أبو دجانة تكمن في تلك المقالة التي كتبها قبل قرابة ثلاثة أشهر من عملية التفجير، بعنوان «متى تشرب كلماتي من دمائي؟» وكأنه بدا واثقاً من اقتراب المشهد من نهايته وإسدال الستار على اللعبة الأمنية الخطرة والمعقدة والمركبة، التي دخل فيها مع أعتى الأجهزة الأمنية! يقول في تلك المقالة « لم أعد أستطيع الكتابة، ولدي رغبة بأن أحال إلى التقاعد المبكر، لقد أفلست... ذبلت... تعبت... مللت»! حتى يصل إلى القول «هذه حالة أعرفها، وهي ما يسمى بالاحتضار الوجداني/ فكلماتي إن لم أسعفها بدمي، ومشاعري ستنطفئ إن لم أهبها لموتي، مقالاتي ستشهد ضدي إن لم أقدم لها الدليل على براءتي من النفاق»، وقد قدّم الدليل المطلوب في تفجير نفسه بضباط الاستخبارات الأميركية! أبو دجانة الخراساني، إذن، معني جداً بمصداقيته لدى رواد المنتديات الجهادية وجديته في تحقيق ما يكتب عن الجهاد، وبصورته التي سترتسم بعد أن ينال بعمليته تلك تصديقاً على كل ما كتبه في «المنتديات الجهادية». مع بقاء تفاصيل مهمة ودقيقة غامضة إلى الآن في قصة تحول أبو دجانة الخراساني من كائن إلكتروني، إلى «قاعدي» حقيقي، ومفجّر للأميركيين، لكن هنالك إمكانية لرسم ملامح عامة لهذا المسار الفاصل بين شخصيتي الطبيب همام وأبو دجانة الخراساني. فنحن أمام شاب تربى في أسرة متدينة، وامتلك اطلاعاً مبكراً على الثقافة الإسلامية والجهادية، مع مشاعر العاطفة تجاه فلسطين ومحنتها. وعلى رغم أنه لم يكن مشاركاً في نشاط الجماعات الإسلامية، فإنه وجد ضالته التي تتقاطع مع ثقافته الجهادية المسكون فيها، في المنتديات الجهادية، فتطورت مساهماته ومشاركاته فيها، حتى شكلت جزءاً كبيراً من عالمه الجديد وشخصيته الافتراضية الجديدة... أبو دجانة الخراساني. التقت، لديه، امتدادات الطفولة بالانفعالات العاطفية لما يجرى حوله، وساعد على ذلك المزج احتلال العراق والعدوان على غزة، والأزمات المتتالية التي عصفت بالدول العربية والعالم الإسلامي منذ أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001. كان اعتقاله من قبل الاستخبارات الأردنية في مطلع عام 2009، وفي بداية العدوان على غزة، نقطة تقاطع غريبة ذات أبعاد مركبة، فالأجهزة الأمنية تعرّفت إلى أبو دجانة الخراساني، المعروف على الانترنت، وظنت أنها يمكن أن تجند سمعته وحضوره لتخترق «القاعدة» بسهولة، وهو، في المقابل، أراد أن يحقق أحلامه بالسفر إلى أراضي أفغانستان، وفي الوقت نفسه التخلص من ضغوط الاستخبارات عليه وعلى أسرته. مع سفره إلى «بلاد خراسان» بدأ همام - أبو دجانة برسم ملامح السيناريو الذي وقع أخيراً في قاعدة خوست، واستثمر ذكاءه وقدراته الثقافية واطلاعه الواسع في الإيقاع بأكبر الأجهزة الأمنية بالتنسيق مع «القاعدة»، إلى أن وصل إلى لحظة الوداع والفراق، لكنها في الوقت نفسه تمثل اللقاء الرسمي الأول بين شخصيتي همام خليل البلوي وأبو دجانة الخراساني على الأقل لدى الإعلام العربي والعالمي والغربي ومحبيه – كذلك - من رواد المنتديات الجهادية.