صدرت لرواية «زوربا» لنيكوس كازنتزاكس-حتى الآن- ترجمتان عربيتان عن اليونانية مباشرة، الأولى لخالد رؤوف، عن المركز القومي المصري للترجمة عام 2013، والثانية صدرت قبل شهرين لأستاذ الأدب اليوناني محمد حمدي إبراهيم، عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، ضمن سلسلة «المئة كتاب» التي يرأس تحريرها الشاعر والمترجم رفعت سلام. (وهناك أيضاً ترجمات أخرى عن لغات وسيطة). في الوقت الذي أكد كاتب الرواية كازنتزاكس أن زوربا شخص حقيقي بلحمٍ ودم رآه وعاصره وأثَّر في حياته، فإن بعض الدارسين يذهب إلى أنه محض خيال لم يره أحد ممن عاصروا الكاتب ولم يذكر أحد من الأصدقاء أن عاينهما معاً، وزوربا الذي تحول إلى شخصية سينمائية جسَّدها أنتوني كوين باقتدار في فيلم جلب الشهرة والعالمية لراوي الحكاية، ثم إلى أوبرا وأعمال مسرحية جابت الدنيا، ما هو إلا نموذج البهجة العنيفة والإنسانية المفرطة، البدائي والحيواني الهمجي والقديس والمتحضر، الطاقة المتفجرة للضحك والبكاء والرقص والذكاء وحب العمل، كل هؤلاء جنباً إلى جنب، وما إن يتشرب الإنسان زوربا بكل ما فيه، ما إن يفهمه جيداً، حتى يصرخ «أكان من الممكن أن يصبح الحل لتعاستي وخصومتي مع العالم بهذه البساطة». وأياً كان زوربا «نيكوس» حقيقياً أم مبتكراً، فإنه لا بد لكل منا من «زوربا آخر» تعثر فيه في مسيرة حياته، أغلبنا يرميه بالجنون، بغرابة الأطوار، لكن الكاتب وحده توقف عند هذا النموذج ووضع على فمه البلاغة التي تليق بشاعر لينطق ويفضح مكنونات نفسه، ويثبت بمنتهى الأريحية أن مسيرة الحضارة الإنسانية التي تبلغ من القِدم آلاف الأعوام، قد ضلت الطريق حينما تركت الطفل البدائي الذي عاشته في يوم ما. كان هذا الطفل هو مبلغ سعادتنا، لأنه كان يرى العالم كل يوم كأنه يراه للمرة الأولى، بالدهشة نفسها والإحساس الطاغي بجمال الموجودات. هكذا كان زوربا يحتفظ بالدهشة المتجددة التي تقتل رتابة الأيام، وكان يرى البحر والرمال والأشجار وجميع المخلوقات في كل صباح، فيفتح عينيه على اتساعهما كأنه يشاهد هذه الأشياء للمرة الأولى في حياته، كم من السعادة المتجددة التي كانت تجلبها لنا تلك النظرة ونحن صغار، ومن هو هذا الإنسان الذي له من القوة وبساطة النفس ما يجعله قادراً على الاحتفاظ بها حتى يبلغ الشيخوخة ويصبح على حافة الموت، إنه زوربا. ومن المؤكد أن الكاتب كان يعي جيداً مقتضيات الظرف التاريخي الذي كان يحيا فيه في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي، فعلى رغم انتهاء وصاية الكنيسة الكاثوليكية على الدولة في أوروبا قبل ذلك بزمن، إلا أن ميراثها الكهنوتي كان لا يزال يسيطر على عقل الإنسان الغربي، هذا الميراث الفكري كان له ميزان كفتُه راجحة باستمرار ناحية الروح على حساب الجسد. فكل ما يختص بالجسد من احتياجات وملذات هو قادم من الشيطان جدير بالاحتقار والازدراء والإذلال. كان على الأوروبي، بخاصة اليوناني أن يعيش وبداخله صراع شرس بين ميراث لحضارة إغريقية تحتفي بالجسد وآخر كهنوتي ينتصر لسمو الروح ويتأفف من المادة. هنا يجعل الكاتب جزيرة كريت مسرحاً للأحداث، ويرسم لنا هؤلاء الكريتيون البسطاء الشهوانيون على رغم كونهم يحتقرون الزناة، ثم يرسم على هامش اللوحة أنثى ضارية الجمال، وكأنما يلقيها عليهم من السماء ثم يمنح القارئ الفرصة لكي يراقب تصرفاتهم، أرملة يشتهيها الجميع ويمتنع امتلاكها على الجميع، ماذا إذن؟ سوف يلقبونها بالعاهرة الدنسة عدوة الرب القادمة من عند الشيطان، لا لشيء إلا لأن كل واحد فيهم يرغب فيها بشدة لكنه لا ينالها. هذا التناقض العنيف لا بد له من حل، إذن كان لا بد لنموذج زوربا من الظهور ليعيد هذا التوازن المفقود بين الجسد والروح. لا فكاك من التفلسف هنا حينما نتحدث عن «زوربا»، فهي رواية تحكي لنا في الأساس ببطء وروية عن كيفية التحول الذي يصيب الراوي العليم (هنا هو الكاتب) وهو شخص مفكر يبحث عن سر الكون والسعادة واليوطوبيا، يحلم بمجتمع يتساوى فيه الفقير مع الغني والرجل مع المرأة، وبناءً على ذلك يشتري منجماً للفحم في إحدى قرى الجزيرة، لينشئ مجتمعه المنشود ذاك. وفوق ذلك كله فهو يجد في بوذا ضالته، أي في أوسع تلك الأفكار - التي توطد للزهد وإذلال الجسد ونشدان السعادة من خلال الارتقاء بالروح- انتشاراً، هنا لا بد لزوربا من الظهور أيضاً لكي يقول له «أنت شاب، لو كنت في مثل صحتك وجمالك لما توقفتُ عن الرقص». كيف يمكن للرقص أن يصبح سراً للسعادة وللتصالح مع الكون، إنه فعل الرقص في معناه العام والشامل، أن يكون المرء خفيفاً بدرجة كبيرة ما يجعله يتحرك بين الأشياء يلمسها بجسده ويتوحد معها، لكنه يتنقل بينها بسهولة دون الرغبة في امتلاكها جميعاً أو الوقوع في فخ العبودية لأي منها، هنا تسمو الروح ويشبع الجسد في آنٍ واحد، ويتصالح الجسد مع روحه من خلال تصالحه مع المادة، يقف الكاتب ليسأل: «كيف توقف زوربا وهو طفل عن إدمانه المزعج لتناول الكرز؟»، فيجيب زوربا: «أحضرتُ أكبر كمية منه وتناولتها دفعة واحدة حتى شعرت بالتخمة المزعجة وتقيأت، ومن لحظتها لم أعد عبداً للكرز»، هكذا يرى زوربا كيفية التحرر من سلطة المادة، بالخوض فيها لا باجتنابها واحتقارها. إذن لسنا بصدد نموذج شهواني يحتفي بالمادة على حساب الإنسان، فزوربا هذا الذي ترسمه الرواية هو نموذج صارخ في شعور الإنسان بأخيه الإنسان، وفي حبه للضعفاء الذي يصل إلى درجة التضحية بالذات، وفي خوض شؤون الحياة ببسالة، يتجلى ذلك في حكايتيه مع مدام «أورتانس» صاحبة الفندق، وفي مأساة الأرملة الجميلة، وللمرأة هنا نصيب جيد من الحكايات والتأمل الناضج. يتحول الراوي رويداً رويداً، إلى أن يكتشف مع زوربا أن السعادة الحقة هي في الالتصاق بالأرض وفي التوحد مع المخلوقات كافة، وفي الدهشة المتجددة وفي الرجوع إلى الطفل الذي كانه في السابق. ولعلها رحلة تطور الكاتب نفسها، فنيقوس كازنتزاكس الذي تم اتهامه كثيراً بالتناقض بين الوطنية المتطرفة والشمولية، والتصوف والمادية، وكتابات المرء خير دليل عليه، فهو الذي تخطى فكرة الوطنية المتطرفة في روايته «الحرية أو الموت»، ثم تخطى بوذا للتوازن الحسن بين الروح والجسد في «زوربا»، ومن ثم أيقن أن خلاص البشر قادم من هنا، من الأرض في «الإغواء الأخير»، وسعى في رحلة التوحد مع الكون في «تصوف». ومما قد يعيبه القارئ على زوربا التأملات الطويلة التي تتخلل الرواية في شكل يدعو إلى الملل أحياناً، ولعله قصد ذلك، فالتحول الذي يصيب الراوي هو تحول فكري في الأساس. ولا مراء في أن نيكوس كاتب كلاسيكي بمقاييسنا الآن، ويميز رواياته الإسهاب في وصف التفاصيل المكانية، لكنه تخطى ذلك في روايته التالية «الإغواء الأخير للمسيح» حيث كانت تفاصيل الأماكن رغم وفرتها تُمنح لحماً ودماً، فتشارك الشخصيات مشاعرهم وأفراحهم وأتراحهم. وفي رأيي أنه كان يتميز على الفرنسي ألبير كامو الذي اختطف منه جائزة نوبل عام 1957 في سعة خياله وعظمته، إلا أن كامو كان ينتصر للسرد في رواياته على حساب الأشياء الأخرى، ما جعل مشروعه الأدبي يبدو أكثر تماسكاً. صدرت للرواية -حتى الآن- ترجمتان عن اليونانية مباشرة، إذاً، الأولى لخالد رؤوف، عن المركز القومي المصري للترجمة عام 2013، والثانية لأستاذ الأدب اليوناني محمد حمدي إبراهيم، عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، ضمن سلسلة «المئة كتاب». وهما ترجمتان على قدر كبير من الجودة. خالد رؤوف، الذي لا يعتبر نفسه من المؤمنين بتقديم وجهة نظر المترجم في النص، قدم للقارئ نصاً يتمتع بحس شعري عالٍ، إلا أن ذلك أتى أحياناً على حساب الحس السردي ورسم المشهد بالشكل الذي يجعل القارئ يراه جيداً، وهو ما يستطيع المرء الجزم بأن نيكوس كان بارعاً فيه وإلا ما تمتع النص بهذا الإقبال العالمي، وأعتقد أن من المستحيل على المرء أن يتخلص من وجهة نظره نهائياً أثناء فعل الكتابة (فالترجمة كتابة على الكتابة) مهما بلغت به الموضوعية. وحقيقة الأمر أن كاتبنا هو شاعر وروائي وكلاهما لا ينفصل عن الآخر، فهو يكتب الحكاية بخيال الروائي وحدس الشاعر، وهنا كانت ترجمة المركز القومي أكثر تماهياً مع الصورة الشعرية، بينما حافظت ترجمة سلسلة «المئة كتاب» على التوازن بين شاعرية النص وكونه سرداً في الأساس، كما نقلت إلينا الحوار بين الشخصيات في خفة وسلاسة وفي شكل يمنح كل شخصية لونها الخاص، واللغة في الأخيرة جزلة لكنها بعيدة نوعاً ما عن روح العصر، بينما في الأولى تبدو اللغة لينة ومشابهة كثيراً لتلك التي نستخدمها في حياتنا اليومية. وتفتقد الحوارات بين الشخوص في ترجمة المركز القومي لكل ما ذكرناه هنا بخصوص الترجمة الأخرى، فالأمثال المحلية الخاصة بالكريتيين تمت ترجمتها في شكل حرفي ما يجعل من الصعب على قارئ الترجمة أن يفهم ما ترمي إليه.