بالأمس أقفل الزميل حسين حويلي غرفة الهاتف في مكاتب «الحياة» في بيروت للمرة الأخيرة. خرج صامتاً ومبتسماً كعادته، وتوجه الى سيارته المركونة في الموقف البعيد من المكتب، والذي يستوجب الوصول إليه اجتياز ذلك الشارع الذي تعبره السيارات مسرعة، وهناك شطبت وجهه سيارة مجهولة. بدءاً من اليوم سيفتقد مكتب «الحياة» في بيروت حسين، فمن الساعة الثالثة بعد الظهر وحتى التاسعة مساء سيباشر غيابه الذي لا ندري كيف سنقوى عليه. حسين الذي عرفناه منذ أكثر من 18 عاماً لم يُخطئ فيها مرة واحدة، ولم يُبادل أحداً إلا ابتسامات حقيقية ومودة خاصة ومشاعر دافئة ومتجاوزة عثرات اللقاء اليومي وبداهاته، حسين غادرنا للمرة الأخيرة في تلك الليلة الغامضة. حسين الذي لم نسأله يوماً إلا وأجاب ولم نخاطبه إلا وابتسم ولم نحيّه إلا وأضاف. أنهى عامه الحادي والأربعين وغادرنا بالأمس للمرة الأخيرة. «تقبرني يا حبيبي، أصل إليك بعد عشر دقائق»، قالها لوحيده علي الذي اتصل به للتو قبل أن يقفل باب الغرفة ويرحل. حسين الذي لطالما التقيناه في مجيئه الى الجريدة مستعجلاً ومطلقاً ابتسامته من أول الشارع الذي اجتازه للمرة الأخيرة في تلك الليلة، وبعث لقاؤنا به حيرة غامضة ربما كانت منيته سببها. ربما كان يُحذرنا من أنه سائر باتجاه منيته وأن ما كان يوفره لنا من مودة وحب وعمل لن يدوم، وينبهنا الى ان لا شيء سيدوم. فلحظة واحدة كفيلة بشطب وجه جميل الى الأبد، وسيارة مجهولة لا تعرف ما سيخلّفه غياب رجل في كثيرين ممن يعرفونه أو يصادفونه عابراً مبتسماً من أمامهم. سائق السيارة المسرعة لم يعرف حسين. صدمه ورحل. ارتفع جسد زميلنا المبتسم عالياً ليعود إلى الأرض ومعه جزء من السيارة. مرآة وضوء أمامي وشيا بأن لونها أحمر. بقي جسده مدمى ينزف وسط الطريق ربع ساعة... ولحسين وجه آخر غير الوجه المبتسم، انه وجه المكافح مع والده الحزين، من أجل عائلته التي يعيلها مع أمه وشقيقته، وهو كان يفعل ذلك بدأب وصمت في ظل أثقال العيش وأكلاف الحياة. فلم يكن نجله الوحيد علي دافعه الى العمل والكفاح، انما أيضاً أم وشقيقة، وكل ذلك لم يزح عن وجهه نظرة متفائلة، مع شيء من السخرية من أثقال العيش ومرارته. حسين الذي لم يقبل يوماً ان يبادلنا ثرثراتنا التي قد تصيب غيرنا، لكنه لم يكن يُشعرنا بأننا نرتكب حماقة الغيبة والثرثرة اللتين ترفّع عنهما، والذي وفي ذروة غضبنا كان مترفعاً ومبتسماً، غادرنا في الليلة الأخيرة مبتسماً أيضاً، وربما واجه تلك السيارة المجهولة مبتسماً أيضاً، وفي الثانية التي سبقت صدمه وقتله تمنى لو اتسع له الوقت ليطلق تلك الابتسامة محاولاً ان يقول للسائق الفار: «ما في شي محرز... اسمح لي ان أعود الى بيتي، فعلي ابني ينتظرني، أليس ذلك أهم مما أنت مسرع من أجله؟».