لا تقدم الكتابة السعودية في الآونة الأخيرة روايات ذات جو مختلف أو كتابة في صنف جديد، على رغم الاطلاع الهائل الذي يواجهنا به الكتّاب السعوديون كل مرة في حقول مختلفة للرواية العالمية. ففي ظل غياب ثيمات مثل الكتابة البوليسية، أو غياب لمواضيع هي حديث الساحة المستمر مثل كرة القدم أو البطالة، أو حتى بنية روائية عدا الخط الواحد المباشر، لا يمكن أن يجد القارئ ما يلفت النظر إلا في القليل جداً من رواياتنا المحلية كل عام. ومما لفت نظري من إصدارات هذا العام هي نوفيلّا «ظلمات» للكاتب والشاعر مبارك الهاجري، والتي صدرت عن دار أثر للنشر والتوزيع بالدمام. تأتي «ظلمات» في 70 صفحة من القطع المتوسط، وهي على رغم حجمها مليئة بالأحداث والأماكن المتعددة وبخط سير قصصي مختلف، من دون أن يلجأ الهاجري إلى تكثيف درامي يخلّ بالنص ويضيف عليه ثقلاً لا يحتمله. شخصية الروائية الرئيسة هي كاتب يُدعى أبان بن مهل بن أبي العلاء، وتدور أحداثها - كما يبدو - في زمن الدولة العباسية. تفتتح الرواية بمشهد سجن لأبان، وهو يعاني من أجل إيجاد تبرئة لنفسه من البقاء في «ظلمات» السجن، لنجد أنفسنا لاحقاً أمام جريمة قتل، وشهادة زور، والكثير مما ينبئ عن «ظلمات» الروح إن ارتضت مسلك الخسة. وتُظهِر الرواية بعض جوانب كلٍّ من نفسية السجين والسجّان، وجزءاً من استعراض تعاطي الخلفاء مع الأدب قديماً، ومشاهد ثرية حول التعايش الديني والاجتماعي في تلك الفترة. المميّز أن «ظُلُمات» فرضت بأجوائها على الهاجري لغة وطولاً معيناً، وقد أدى ما طلب منه بكل اقتدار. تنسلّ الحكايات من بعضها في الرواية بكل حرفية من دون أن تفقد القارئ متعة المتابعة. كما حفلت بلغة تراثية ممتعة، وهي مفاجأة الرواية الكبرى. مما يُضاف للرواية أنها فرضت أيضاً بشكل أو آخر إلماماً تاريخياً بجوانب تلك الفترة، وهو ما ظهر في حوارات أبان مع صديقه المقرب أبي الحسن. في النهاية، أرى أن الهاجري وُفق في هذه الرواية بشكل كبير، وآمل متابعة نتاجه المقبل إن كان سيكمل بشكل مختلف عن البقية كما فعل في «ظلمات». وتحفل الرواية بمشهديّة عالية، وأستطيع تخيلها مرئية أمامي في وسطٍ آخر غير الوسط النصّي. من أجواء الرواية: «ألقيت نظرة أخيرة على النعش، أبثه بعض غصةٍ علقت في نفسي، وبأنني في ذروة الأمر لا أفهم حقيقة ما يجري؛ لكنني أفسح لتلك التعاليم التي وجدتها في الجثة ممراً من نور في صدري، أتعقّبه في ما بعد بأماراته التي ما فتئت تبعث بإشارات حياةٍ ثمينةٍ معلقةٍ لم يحن صعودها للسماء بعدُ. داعب نسيمٌ واهنٌ وجهي وأنا أرفع بطرفي تجاه الرقيق وهم يحفرون، ثم تجاه قبر اليهودي، ثم على المقبرة، ثم على الرابية التي تحفُّ الطريق تسنمها صبي». * مترجم وكاتب سعودي.