قالوا لي، عليك كأرملةٍ صغيرة، أن تقضي حياتك بطرق ثلاث، الأولى، أن تقتاتي على الأحزان بسوادها حتى تموتي، والثانية أن تتزوجي من عابر سبيل، حتى يتدفأ السرير، وأخيراً، أن تذهبي إلى بلدة الأرامل تساعدينهن في صنع أحبار الخطابات التي تكتب سراً للفتيات. تعجبتُ وسألتُهن، هل هناك بلدة للأرامل؟! فلتقرأي ذلك الكتاب الذي يصف مكانهن ويحكي عن كبيرتهن، إذا لم يعجبك الاختيار الأول والثاني سيناسبك تماماً ككاتبة أن تعيشي ضمن نسوة هذه البلدة. أثارني الفضول. حدَّدتُ موعد رحلتي، في الليل. حصلتُ على العنوان من الكتاب، ووصلتُ بسهولة، حيث الحُلم دليل صريح. منذ دخولي، لم ألمح واحدة منهن ترتدي ملابسَ حداد. الفراشات تلون سماءهن. سألتُ عن بيت كبيرتهن وقبل دخولي لمقابلتها، سمعتُها وهي تقول لشابة جميلة تقف أمامها: - اخرجي من هنا، اذهبي، فأنا لا أكتب الخطابات سراً، لا أكتب إلا لحبيبي فقط. اذهبي أنت واكتبي لحبيبك ما تشائين، فعليك أن تكتبي خطابك بنفسك، أعلني حبك له، عليك تحمل عقبات العلن كما تتحملين معاناة السر. بكاء الفتاة أحزنني وأغضبني من كبيرة الأرامل، وصرخت في وجهها:- أتبكين؟ أنت إذاً تنتمين إلى بلدة أخرى، فهنا الأرامل لا يجلسن فوق القبور في الظلام يبكين أزواجهن، وحظوظهن، إنما يعملن على إمداد السماء بطاقة نور، حتى تستمر الحياة بنورهن، أيتها البلهاء لا تستجدي الأرملة مساعدة صديقٍ لزوجها لتنتهي الحكاية بتحرش تقبل به في النهاية على سرير من قش، ولا تتكئ على صديقةٍ لها، فتغار منها على زوجها أو حبيبها، هنا تعود عذراء كما كانت قبل الزواج، تنتظر حبيباً جديداً يطرق بابَ غرفتها المزينة بالورود والشموع الملونة، وعرائس محشوة بريش النعام تراقص بعضها البعض، ليفض غشاء بكارتها الذي رتقه الحزن. يا فتاة الحزن اذهبي من هنا، واطرقي باب تلك العجوز التي تنتظر احتضان الموت لتقابل شبحاً لم ينتظرها. اذهبي من هنا فوراً. -2- دخلتُ عليها في خلوتها. ما هذا الجمال؟ كأنها فينوس تعدت الخمسين بقليل، لها جسد مشدود وملامح يقظة، لمعة عينيها تنافس الشموع من حولها. تحول غضبها إلى ابتسامة وهي تطلب مني الجلوس. أراقبها. هل هذه هي الأرملة العجوز التي يحكي عنها الكتاب؟ ليست هي بالتأكيد، فلا يمكن أن تكون هذه الفاتنة المثيرة ذات العيون النجمية عجوزاً تنتظر لقاءً سرياً في إحدى المقابر. سألتني: - ما الذي أتى بك للسؤال عني؟ - كتب عنك صديقي طارق إمام وأثار فضولي. - ولكني لا أعرف أحداً في عالمكم. - نعم ولكنه زارك وزار عالمك في حلمه الكبير، فكما تعلمين يمكن لعوالم كثيرة أن تلتقي في الحلم. - إذاً أهلاً ومرحباً بكِ وبصديقكِ الذي شرَّفني بذكري في كتابه. - معذرة، ولكنني لم أسعد بسيرتك في كتابه، فما كتبه عنك أغضبني، فأنا لا أحب الأرامل اللائي يكتبن الخطابات سراً. - ومن الذي قال لك عني هذه المعلومة المغلوطة؟ - صديقي. - آه، ربما يقصد امرأة أخرى؟ - لا، إنه يقصدك أنت بجمالك هذا وبشفافيتك ونورك. - إذاً، هو لم يتقصَ حقيقة بلدة الأرامل جيداً، فنحن نسير بخفة النعامة ونرقص الباليه على أنغام الموسيقى النابعة من روحنا، نشاكس الورود والنحل الذي نجذبه فيسيل عسله على ثغورنا. هنا لابد أن تشاهدي قوسَ قزح وهو يدور حول بلدتنا يومياً وقت الغروب، وقتها ستعرفين أننا لسنا ممن ينتظرن الفرج بجوار أبواب العشش، بل إننا لا نربي حيوانات من الأصل، فالحيوانات والطيور تثير شفقتنا كثيراً ونحن لا نقبل ضعفاء يثيرون الشفقة بيننا. إذا دخلتِ منازل هذه البلدة ستجدين سيداتها متشابهات، فالقوة الروحية تصنع المستقبل والجرأة هي تحدٍ حقيقي للحزن الذي يسحب الجميلات نحو الفناء قبل الأوان فيتحولن إلى مجرد قطع قماش سوداء يمسح فيهن عابرو السبيل قذارتهم. -3- اعترتني ابتسامةٌ يملؤها فرح لا مبرر له، إلا فرقعة ألعاب نارية في السماء وقت حلول الظلام. -4- - أعتذر إن أغضبتك. - أبداً، أنا سعيدة لأنني استطعت أن أخبرك بحقيقة بلدتنا الصغيرة التي تنعم برعاية ربانية حيث تلتف الملائكة حولنا وحول أولادنا، تذهب الأشجار يومياً لشراء حاجياتنا من أسواق الجنة، كما نستعد دائماً للقاءات مميزة في مساءات سعيدة. يأتي في كل مساءٍ رجل وسيم يختطف إحدانا ويرحل بها بعيداً عن البلدة، حتى تهدأ غيرة الأرملة الكبيرة تلك التي سمعتِ أنتِ عنها في كتاب صديقك، فهي الوحيدة المقصودة ولا غيرها، بما أنها خرفة، تعتقد أنها تؤثر على الشابات الصغيرات بخطاباتها السحرية الشيطانية، ولكنهن فهمن لعبتها وفررن منها، وإذا ذهبتِ إليها الآن ستجدينها وحيدة هي وخطاباتها وسيفزعك مشهدها، فهي لم تتعد الأربعين وتبدو وكأنها في الثمانين تملأ تعرجات الزمن وتجاعيده وجهها، وينحني جسدها النحيل في ترهل خرقة بالية عجنها طين الشارع، ولكني أنصحكِ بألا تذهبي إلى بيتها المقفر، فما أن يطرق بابها أحدٌ حتى تلتصق به في محاولة لإثارة شفقته حتى تكتب لها خطاباً سرياً جديداً. أما أنا يا عزيزتي، وزميلاتي في بلدتنا الأسطورية تلك، فإننا لا نكتب الخطابات سراً أبداً.