في الحادي عشر من مايو 2010 أي قبل يومين بالتمام كنتُ عائدًا من المطار بعد أن أخبرني موظف الخطوط أن الرحلة أغلقت.. الرحلة كانت متوجهة إلى مطار طرابلس في ليبيا أي قبل يوم من سقوط الطائرة الليبية في ذات المطار! في الحادي والثلاثين من يناير 2006 كنتُ أحد الذين ختموا جوازاتهم دخولا للوطن عبر مدينة ضباء، أحمل معي ما أبقته لي الغربة وما استطاعت أن تحمله إحدى عبّارات شركة السلام أي قبل يومين فقط من غرق العبارة. في الحادي عشر من فبراير 2005 أعبر «ساحة الموت» في بيروت حيث اغتيل الرئيس رفيق الحريري، أي قبل ثلاثة أيام فقط من التفجير..! أفتح المذياع على «MBC – FM» هذا صوت خالد عبد الرحمن (ياروح روحي عليك الروح).. فتجهش النفس بهذه المشاهد الراحلة، لست من المعجبين بصوت خالد لكن لا يلزمك حنجرة ذهبية لكي تقصف ذاكرتك بهذه الذكريات، أحيانا تُرمَى كلمة عابرة من أحد المارّة أو أحد الأطفال ومنها تولد أحزانك إلى الأبد.. تولد ذكرياتك المريرة. أتساءل ما الذي كان يحجبني عن الموت؟! ما الذي يجعلني أسبق الموت هكذا؟! أسبق صرخته.. أسبق ضغطة زر أحمر في بيروت أسبق أعقاب «سيجارة» في البحر أسبق غضبة محرك لا يريد السفوح..! ما الذي يخلفني عن الموعد؟! هل الحياة مهينة لهذه الدرجة؟! أيمكن أن أبدأ اللعبة مع الموت؟! أن أطلق الطلقة الأولى من «الروليت» لأتقدم عنه مسافة يوم كان يتأخر عن موعده.. كان يرمم سواده على ذاكرتي.. يحمل فجيعته أمام عيني رائحته النتنة على أنفي.. ضحاياه وجوها ربما باسمتها قبل اللحظة الحاسمة وربما صافحتها قبل العطب. ترقص جميلة أمام حبيبها هنا.. وأظل أحمل ذاكرة لفتاة لم تحضر لحبيبها في الموعد المحدد كان الفستان عباءة الموت المخيف.. ولا زال ينتظر تكتب عجوز لصغيرها «أحبك».. وأظل أحمل ذاكرة لأم لم تستوعب أن البحر أكبر من ابنها.. كيف غيّبه الموت وهو بهذا الحجم من البياض؟! يغمغم عاشق لفاتنته: «متى الوعد؟» وأحمل ذاكرة لزوجة شاخت يدها من التعب.. كيف تحركت اليد لتمسح دمعة الوداع لزوجها الذي لن يعود؟! يعبر الموت هكذا سريعا أمام عيني.. أسابقه نحو محطات القطار.. المطارات/المحيطات/ السفح والجبل.. كان يتبعني باقتدار.. كان يختار أجمل لوحات الأمكنة.. كان يختار النهار/الليل/الشتاء/الخريف.. وشيئاً «كثيراً» من نغنغات الطفولة.. هكذا يعبر الموت.. وهكذا أشعر بخواء النهايات.. بمرارة الحياة.. باللحظة الحاسمة التي يمنحنا فيها أضرحة وشموعا خافتة.. هكذا يعبر الموت.. أتقدم فيتأخر.. أتأخر فيتقدم.. يدهس امتداد طريقي بالأمس فيجعل عمري أقصر من يومين ويقطع اتصال طريقي في الغد فيجعل حلمي أقصر من يوم يظل يلعب معي لعبة «الثلاثة أيام» مابين عمر انتهى وحلم قادم «عفوا الطائرة أغلقت» «العبَّارة ممتلئة» «الفندق محجوز» كانت الحياة هي الواقفة خلف «الكونترات».. وكان الموت يعقد صفقاته في «الكابنات» الداخلية كانت تهبني عمراً وأغضب.. وكان الموت يريد أن يجعلني من ضمن اختياراته الأخيرة فأضحك.. أبحث عن واسطة في المطار/الميناء/الفندق.. واسطة الموت! كانت الحياة تغلق أرقام أصدقائي.. وكان الموت يعطيني المواعيد الأولى.. يحجز لي في درجة رجال الأعمال ليكون الموت أكثر رفاهية تخيل أن تموت وأنت تشرب «الكوكتيل» للمرة الثالثة، وتتصفح جريدة الصباح وكلما قربت من صفحة الوفيات كلما شممت العطر الذي منحوك إياه باكرا.. تغلق الصحيفة وتتمدد في ذات المكان الواسع.. تسدل المضيفة ستائر «الطبقية» ما بين الدرجتين ليكون موتك باذخاً.. حتى في الموت يمنحوك الطبقية.. قبل اللحظة الحاسمة تغلق الستائر لكي تموت أولاً، دون أن تتأذى بروائح المسحوقين.. كان يستدرجني لشراكه بعد أن يفخخ كل ضحاياه.. وكانت الحياة تحسم الموقف في اللحظة الأخيرة.. أتساءل هل الموت فارغا ليبحث عني في كل الزوايا.. وهل هو بهذه الوسامة لأمنحه العمر.. .. ثم ماذا لو مت؟! * كاتب سعودي.