تباغت الأحداث المثقف اليمني وتستبق توقعاته، تاركة إياه في حال من التشظي والعجز عن استكناه عمق تحولات مجتمعه، واستشراف نتائجها والتأثير في مساراتها. في وقت ينخرط مثقفون، بينهم شعراء، في آلة الدعاية السياسية والحربية للميليشيات المسلحة والجماعات الطائفية المتناحرة. وبعضهم بارك، ضمناً أو صراحة، الانقلابات المسلحة، ونظم قصائد مديح فيها. وعلى رغم مرور أكثر من عقدين على أفول الدولة البوليسية وانهيار جدار برلين، الذي لطالما ألقى بظلاله على علاقة شمال اليمن بجنوبه، يبدو المثقف اليمني أقل اقتراباً من اللحظة العولمية وأكثر انغماساً في تشظيات مجتمعه. يتماثل مع الرائج ويتماهى مع الخطابات الجهوية والحزبية والمذهبية. وعلى غرار الشاعر الراحل محمد محمود الزبيري الذي انحاز في ستينات القرن ال20 إلى القبيلة، مادحاً قوتها الحربية وفضائلها المزعومة، برز في الألفية الثالثة كتاب وشعراء يرفعون رايات الهويات الجهوية والطائفية ويبررون للطغيان وحكم الفرد. وبدلاً من أن تشكل ثورات الربيع العربي قبساً يضيء وعي المثقف ويذكره بدوره الطليعي المفترض، على العكس من ذلك بدا المثقف اليمني متيبساً أمام اللحظة موزعاً ما بين مجرد تابع لحركة الشارع الثورية وبين مؤيد للنظام الحاكم. وشاع مصطلح «مثقفي الفنادق»، ويقصد بهم الموالون لأنظمة استبدادية مثل نظام بشار الأسد وصالح. يمثل الحراك الجنوبي المطالب باستعادة الدولة الجنوبية السابقة، وانقلاب 21 أيلول (سبتمبر) 2014 أنموذجين بارزين لملاحظة نكوصية المثقف، وكيفية وقوعه في شرك العصبيات الحهوية والطائفية. في الحال الأولى تعاطى مثقفون متعاطفون مع مظلومية الجنوبيين من منطلق الجغرافيا والتاريخ، ولم ينظروا إلى القضية باعتبارها نتيجة لخلل في النظام السياسي، ما أدى إلى تفشي الكراهية لكل ما هو شمالي من دون تفريق. وفي الحال الثانية أيد مثقفون الانقلاب المسلح على الحكومة المنتخبة وحل البرلمان، وباركوا الحرب التي يشنها الحوثيون والقوات الموالية للرئيس السابق في مناطق ذات أغلبية سنية ما أدى إلى بروز النزعة الطائفية. ومنذ انطلاق «عاصفة الحزم» يدور سجال يغلب عليه الهجاء السياسي ما بين مؤيد ومعارض للضربات الجوية، التي يشنها التحالف العربي ضد أهداف عسكرية تابعة لميليشيا الحوثيين الانقلابية. ويبدو اجتزاء الحقائق والافتقار للسياق الأخلاقي سمة مشتركة للمواقف المتعارضة، فالذين يرفضون الانقلاب في اليمن بعضهم أيدوه في مصر. والذين يعارضون الضربات الجوية ضد الحوثيين والقوات الموالية للرئيس السابق في اليمن يباركونها ضد تنظيم «داعش» في العراق وسورية. وفي وقت باتت وحدة اليمن وديموقراطيته في مهب الانقلاب المسلح، يبدو المثقف حداثياً لجهة كتابة النص الأدبي وإتقان أدواته، عصبوياً وشمولياً في سلوكه وتعاطيه مع القضايا العامة. وما انفك المثقف يقفز على الحقائق منتقياً منها ما يوافق هواه الآيديولوجي والسياسي. وخلافاً للكتابات الصحافية المتسمة عادة بالمختلة تمثل جلسات القات ومواقع التواصل الاجتماعي فضاء تظهيرياً يقارب حقيقة وعي المثقف وحقيقة مواقفه، وباستثناء الشاعر الراحل عبدالله البردوني، الذي انطوى شعره على نقد مبكر للغزو الداخلي و«الاستعمار الوطني»، يبرر مثقفون الاحتراب الأهلي والهيمنة المناطقية والطائفية. وكتب شاعر وأستاذ جامعي يمني على صفحته في «فيسبوك» أنه حض طلابه على المشاركة في الحرب التي تشنها ميليشيا الحوثيين الموالية لإيران على «المقاومة الشعبية» في عدن وتعز ومناطق أخرى. وفي تغريدة ثانية كتب الشاعر نفسه أن اللجان الثورية التابعة لميليشيا الحوثيين أسقطت طائرة حربية مشاركة في «عاصفة الحزم» وقبض على قائدها، وهو الخبر الذي اتضح عدم صحته. وعلاوة على الانخراط في آلة الدعاية الحربية تشي تدوينة إسقاط طائرات وغيرها من التدوينات المشابهة مدى تمترس المثقف وتماهيه مع وعي الجموع، وعجزه عن خلق خطاب يمايزه عن منطق السابلة، ويشارك مثقفون في حملات تخوين لمعارضيهم في الرأي. ومنذ الحرب الأهلية الأولى صيف 1994 شكل الحقل الثقافي هدفاً للمال السياسي والطائفي، من خلال شراء ذمم كتاب ودعم مؤسسات ثقافية، وإصدار مؤلفات تفتقر للموضوعية وتتهم بتكريس الانقسامات المجتمعية والمذهبية. هكذا تبدو صورة المثقف اليمني غير بعيدة عن صورة الحاكم العربي، الذي يتحدث كثيراً عن الوطنية والديموقراطية وحقوق الإنسان، بينما هو على صعيد الممارسة ديكتاتور عصبوي محكوم بأفق القبيلة والطائفة.