جالساً إلى كرسيه في غرفة زجاجية بمساحة ستة أمتار مربعة تتوسط صالة معرض The Main بدبي، يضع عبدالله العثمان سماعته، مصغياً عبر مشغل إم بي ثري إلى موسيقى، وقد طأطأ رأسه. ما يميز الموسيقى التي كان يستمع إليها أنها مؤلفة من قائمة تضم 21 أغنية استخدمتها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي أيه) كتقنية لتعذيب معتقلي سجون ما يسمى «الحرب على الإرهاب»، تحديداً سجن خليج غوانتانامو وسجن أبي غريب. من كل الجهات يدنو الجمهور من الغرفة الزجاجية ويتوقف مشاهداً الفنان. كل ما يعرفه أن الفنان يستمع، وللمرة الأولى، إلى موسيقى قُصد منها أن تكون مؤلمة ومؤذية في المعتقل. هذه المعرفة تبدو ضئيلة جداً إذا ما قورنت بفداحة التجربة التي يتيحها التعرض إلى موسيقى عنيفة في ظروف تَعِدُ بها زنازن السجن الكئيبة. يستمر العرض الأدائي الحي، والموسوم «تعذيب من دون اللمس»، ثلاث ساعات متواصلة. وهو جزء من معرض «المقطوعة الأخيرة 1: أوديسة ما بعد الاستشراق» والذي يعرض أعمالَ جُملة من فناني دول مجلس التعاون الخليجي. وكما يقترح العنوان، فإن المعرض يتخذ موضوعاً له مظاهر ما بعد الاستشراق في القرن ال21 ودورها في تشكيل الهويات المعقدة لأفراد ما بعد الاستشراق. ليس «تعذيب من دون لمس» التجربة الأولى للعثمان مع الصوت، فخلال العامين الأخيرين نفَّذ أعمالاً فنية تشمل فيديوهات صامتة أو منحوتات صوتية. ومع ذلك فإن هذا العمل تحديداً هو ما أُخِذَ فيه اهتمامُ العثمان بالصوت، باعتباره موضوعاً للفن ووسيطاً له على السواء، إلى مستوى مُشكِل ومعقد. نحن هنا أمام تعليق غير مباشر حول الاستخدام المخزي للصوت الذي تبنّاه السجن. إذ بينما يستمع الفنان إلى الموسيقى، في عزلة وهمية وفّرتها له الحيطان الزجاجية، يُحفَّز الجمهورُ لاستخدام مخيلته للشعور بالتجربة الحسية التي يمر بها الفنان ومن ثم التماهي معها. ومن الجليّ أن الجمهور لن يبلغ مستوى بعيداً من الإدراك الحسي، بفضل التعديلات التي نفذها الفنان بحق ظروف المعتقَل وممارساته. فالتجربة التي يتفرض بأن يكون مؤلمة يرشّحها الآن الفنانُ بقدرته على إظهار، بل ربما إخفاء، رد فعله المباشر تجاه سماعه الموسيقى. ولهذا السبب لا يمكن الحديث، على الأقل الحديث باطمئنان، عن العمل الفني باعتباره تجربةً مُكافِئة للجمهور بالضرورة. وعلى أية حال، فإن العمل يستثير دوائر من الشعور مسؤولة عن أحاسيس مختلفة، حيث يشاهد الجمهور الفنان مستمعاً، وشاعراً، ومتفاعلاً، دافعاً بذلك جمهوره إلى التخيل ثم الشعور. إزاحة تجربة التعذيب بنقلها إلى صالة العرض، التي يرتكز عليها العمل، سمحت لسلسلة من التباينات التي بدا أنها تكوّن رهان العرض الأدائي الحي. فالجو المعتم والمقيّد للمعتقل، على سبيل المثال، استُبدل بجو صالة العرض المضاء والشفيف وسهل الوصول. هذا التباين يستلزم بحد ذاته تبايناً آخر أعظم دلالة، بين نسقين للعلاقات الإنسانية موجودين في كلٍّ من المعتقل وصالة العرض. فالهرمية الصارمة التسلطية للعقاب، تلك السائدة في السجن، توضع الآن إزاء التجربة الأفقية العاطفية التي تخضع للأعراف الجمالية للفن: الإمتاع والتأثير. في الوقت الذي ينشد النسق الأول استنزاف الروح المعنوية للإنسان عبر القسر والعنف، يتوق النسق الثاني إلى خلق حيز للتفاهم والحوار. ولعل نتيجة غريبة، وغير مقصودة في معظم الظن، من نتائج جلب قائمة الأغاني إلى صالة العرض، ما حدث عندما كانت فنانة مشاركة أخرى تؤدي رقصة بهيجة وحرة في الأثناء التي كان العثمان فيها مقيّداً إلى كرسيه بفعل الموسيقى المؤذية، في لحظة بدا أنها امتحان تحمّل. لقد خلق تزامن العرضين بطريقة ما توتراً بين الحيّزين الصوتيين في صالة العرض. وخير ما يمثّل لهذا التوتر تلك اللحظة التي كان الفنان يُسمع فيها، وساعات العرض الثلاث موشكة على الانقضاء، وهو يكاد ينقطع نَفَسه، مخترقاً «صوتُه» زجاج الغرفة. قد يهدف الاقتصاد الواضح في الأداء المُمَسرح والأدوات المستخدمة في العرض إلى قصر التركيز على عملية الاستماع ذاتها، ومن ثم التأسيس لقناة يمكن إشاعةُ تجربة الفنان من خلالها. على نفس المنوال، لا نشاهد الكثير من الفرجة الجسدية، ربما لأن الجسدي قد اختُزل لمصح النفسي. إضافة إلى ذلك، أشار البيان المقتضب الذي رافق العرض إلى إحباط الفنان من الممارسة الوحشية. يقول البيان: «من هنا، من هذه الغرفة، أترك هذا للموسيقى والإنسان.» إلامَ يشير اسم الإشارة في البيان؟ لن يكون بوسع المرء أن يتأكد أبداً. وبعيداً عن كون البيان مُلغزاً، فإنه يربط بطريقة صارخة بين الموسيقى والإنسان. كل مظاهر الاقتصاد في التنفيذ هذه تُحيل فرجة التعذيب إلى فرجة أخرى رقيقة لا يمكن استشعارها بغير «الاستماع.» ربما يكون طموح «تعذيب من دون لمس» تمكين مواجهة حسية يحدث فيها إعمال الوظائف الجمالية والسوسيولوجية للفن واستجوابها. باستخدام السي آي أيه للموسيقى كأداة عنف، يكون حتى أكثر أعراف الفن الموسيقي أساسية، كالانتظام والتكرار، قد تعرض للتحوير في سبيل تعميق ألم السجين ومأساته. ولهذا فإن التركيز على الآثار الحسية، وأهمّ من ذلك السيكولوجية، للضجيج الناتج عن النفور في درجة الصوت أو ترتيب الأغاني أو نوعها بل وحتى كلماتها، يجعل من عمل العثمان الأدائي مواجهة بين الفن والفن، مواجهة يستعيد فيها الفن اعتباره بعد استخدامه المشين في زنزانة المعتقل. لقد غدا استخدام الفن القسري للتأثير على سلوك الإنسان عبر الحرمان الحسي، موضوعاً للسخرية بفعل النحو التطوعي لإعادة تمثيله من الفنان في صالة العرض. لعل عمل العثمان الأدائي مستلهم من تقارير أساليب التعذيب التي تستخدمها السي آي أيه، وإساءة استخدام الموسيقى كطريقة دائمة ومتكررة للاستجواب في المعتقلات. وعلى رغم ذلك، من الواضح أن العمل يستحضر ويعرّج على عدد من القضايا المتشابكة التي تسم العنف الممهنج اليوم، والذي يضحّي بالكرامة الإنسانية بفداحة. إنه يلفت الانتباه إلى مواضيع شائكة وحرجة مثل الإرهاب، والعنف المستشري، والتغطية الإعلامية للحروب، ومأزق الفرد في القرن ال21، مضيفاً إلى الخطاب المراوغ لما يسمى بالحرب على الإرهاب التي شُنت عقب أحداث 11 سبتمبر ولم تنته بعد. «تعذيب من دون لمس» عبارة عن 21 أغنية ل21 قرناً من الوجود الإنساني. * كاتب سعودي.