«التعذيب من غير لمس»، عنوان لعرض أدائي قدمه الشاعر الفنان المفاهيمي عبدالله العثمان في غاليريThe Mine Art في دبي أخيراً، وفيه يخوض صاحب «قد يحدث هذا الفراغ مرتين» تجربة جعلته في تماس مباشر مع الألم في أقصى حدوده. في تجربته التي قدمها أخيراً ضمن معرض جماعي، عاش الألم نفسه، الارتباك والتحول إلى الهشاشة ذاتها لسجين في معتقل غوانتامو وسجن أبوغريب. أخضع العثمان نفسه لضغوط التجربة النفسية والجسدية، وجعل من نفسه موضوعاً لما ابتكرته مخيلة الجلاد من وسائل تعذيب، ومنها مجموعة من الأغاني التي لها وقع الصعقات الكهربائية وربما أكثر قسوة. أضحى الفنان في أتون التجربة، يلاحظ نفسه وجسده تحت ضغط التعذيب، يلاحظهما من الداخل. في عمله الأدائي يستعيد العثمان شغفه بإثارة الأسئلة عن المصير الإنساني والقيمة المهدورة للكائن، عبر استشعار ألمه الداخلي، وإن جاء هذا الأمر مؤلماً ومجهداً، فهو أخذ يصغي إلى 21 أغنية استعملها الأميركيون لتعذيب السجناء في معتقل غوانتامو وسجن أبوغريب، خلال ثلاث ساعات ليس من أحد سواه داخل غرفة زجاجية شفافة، وهذه الأغاني التي يتردد صداها في جنبات روحه، في الوقت الذي يتخيل صور الضحايا عبر صورته هو نفسه، ويتحسس رعبهم من عذاب لم يخطر على بال أحد. ثلاث ساعات يعيش معزولاً عما يحيطه، لكن متورطاً مع نفسه ومشتبكاً مع صور الضحايا، يراقب مراراً نفسه بعين خياله في مواجهة الألم ووحشية السلوك. ولئن حضر العثمان فيزيائياً في تلك الغرفة الزجاجية، فإن روحه بالتأكيد تلاشت تحت وطأة التعذيب، لتتحد بأرواح السجناء من كل بلد في تلك المعتقلات الرهيبة، المعتقلات التي لم توفر أية وسيلة للتنكيل بتلك الكائنات لانتزاع الاعترافات. ليس من غاية لدى العثمان، سوى تلمس هشاشة الكائن، والقبض عليها. يقول: تركت نفسي تصارع الموقف والموسيقى في المساحة، الدخول إلى الغرفة يتطلب جهداً بدنياً، بحيث تنزل إلى الأرض، وبعد ذلك دفعت بنفسي في فتحة صغيرة حتى أخذت الكرسي ووضعته في منتصف الغرفة وفي منتصف المكان، الذي يتكون من طابقين، وبدأت رحلة ال21 أغنية، واحدة من هذه القائمة موسيقى عربية اسمها الذكرى لملحن مصري». تسربت قائمة الأغاني من ملف «السي آي إي»، كما يكشف العثمان، وتم تداولها على صعيد دولي. ويوضح العثمان، الذي سبق أن أنجز أعمالاً فنية لافتة لاقت اهتماماً وأثارت استفهامات عن الفن لدى المتلقي، أن هذه الأغاني اختيرت بدقة، فكانت إيقاعاتها متنوعة، وكلماتها مؤذية. «أغاني تنتزع الإحساس من أولئك السجناء وتحولهم إلى كائنات هزيلة جداً». وبينما أخذ العثمان يصغي إلى تلك الموسيقى الوحشية، تسلل إليه الشعور بالهشاشة وداخله اليقين بأنه كائن هزيل. «داخل غرفة مربعة من الزجاج منعزل وحاضر، أمد حضوري بالصوت الذي يخرج بأنفاس مندفعة وسريعة مع الموسيقى والألم». كان جسده وروحه يصارعان التجربة، لم يلتفت إلى تقنية الأداء ولا أعار الحضور انتباهه، أخذته التجربة بالكامل، ووهب نفسه لها ليكتشف، ليقف بالإنسان في ما يشبه الغرفة نفسها، وليقول بعدم استخدام الموسيقى في التعذيب. «في الفترة الأولى من البحث في المشروع عثرت على تصريح لعازف الكيبورد آفن كي، يقول فيه : «نعم كنت أتوقع أن تستعمل موسيقانا لمثل هذا الغرض، فمؤلفاتنا الموسيقية على درجة كبيرة من الغرابة والاستفزاز تؤهلها لمثل هذا الاستعمال». ويضيف: «أعرف أنها تفتح رحابة لرحلة الإنسان، وأعرف أن الموسيقى هي الأداة الأقدر والأبهى على إتقان التّفاعل مع القوة اللاعقلية». اختبر العثمان وخز الألم، وهو يستأنف رحلته في جسده، يتقلص الأكسجين ثم يلهث كما لو أنه يريد أن يسبق عداء أفريقياً في سباق ال100 متر، «وأي مساحة تزيد في عيني أكثر من 2 ونص في 2 ونص أرتبك بعدها، ثم هشاشة في الصوت تجرد الصوت من سماته، فهواء ضعيف ومتمدد يرتد ويعود بعويل الوحوش. كل شيء فيّ مشدود، أعصابي ومفاصلي أيضاً». فتنته التجربة على قسوتها، فهي فعلاً «مغامرة وشرخ في الذهن والتنفس. ثلاث ساعات أفقدتني ديناميكية الزفير والشهيق الطبيعية». بعد هذه التجربة لا يمكن للمتابع أن يتنبأ بما هو التالي، لكن بالتأكيد ستتلوها مغامرة أخرى في الفن، «سؤال الجمال متغير في الحياة»، يقول العثمان، «ومن باب أولى يتجدد ويكتشف سمات جديدة في الفن، هذا ما أعتقد».