«إذا جاك الموت يا وليدي/ موت على طول/ اللي اتخطفوا فضلو أحباب/ صاحيين في القلب/ كإن ما حدش غاب، واللي ماتوا حتة حتة/ ونشفوا وهم حيين/ حتى سلامو عليكم مش بتعدي/ من بره الأعتاب/ أول ما يجيلك الموت... أفتح/ أول ما ينادي عليك... إجلع/ أنت الكسبان». هذا ما قاله الأبنودي (1939 - 2015) في رائعته «يامنة»، لكنه كان أكبر من أن يستسلم للموت مع أول طرقة على بابه، فظلّ عصياً عليه كعود صلب في مواجهة رياح الخماسين شهوراً طويلة. لم يعترف بما قاله الأطباء عن جلطة في ساقه، أو ضمور في رئتين أنهكهما إسراف في التدخين والمكابرة والحزن. بل الخوف على بلاد كتب من أجلها آلاف القصائد، وغنّى لها مئات الأغنيات بصوته الأجشّ الحزين. لم يخفَ على أحد أنّ حالة الخال -كما اعتاد المصريون أن يُطلقوا عليه- في نزعها الأخير، ولكن ما إن عُلم خبر رحيله حتى انسلت روح القاهرة من أعضائها. فجأة، اتضح أنّ الصعيدي المشاكس العنيد، الصلب في المواقف والآراء، لم يكن أكثر من موهبة داخل جسد يمرض ويموت. فمن يتابع مسيرة الأبنودي بمختلف محطاتها يظنّ لوهلة أنه أشبه ب «جلال»، بطل نجيب محفوظ في «الحرافيش»، هو الذي روته حبيبته سمّاً يكفي ليقتل فيلاً، لكنه لم يفتك به، وحين صاحت في وجهه مستعلمة عن السبب، أجاب ضاحكاً بأنّه لن يموت. جدلية الثورة تكمن إشكالية الأبنودي مع أقرانه من الشعراء في أن موهبته تفجرت في سنّ مبكرة، ولم ينتظر كثيراً كي يدخل عالم الأضواء، كما حدث مع الكثيرين، فهو انتقل سريعاً إلى القاهرة، تاركاً عمله كموظف في محكمة قنا، ليلتقي بعبد الحليم حافظ ويصبح أحد أهم الأقلام المعبرة عن ثورة تموز (يوليو) وتوجهاتها. وشاءت الأقدار أن يتنازع عليه اثنان من عمالقة الفن حينذاك، عبدالحليم وأم كلثوم. وقد رُوي في هذا الإطار مواقف عدة تشير إلى أنّ أم كلثوم سعت للحصول على قصيدة منه، لكنه رفض أن يترك عبد الحليم، وهذا إن دلّ على شيء أهميته كشاعر بين النجوم الكبار. ويبدو أن الأبنودي أدرك منذ ذلك الحين متعة التقرّب من «الكبار»، وتحديداً النظام. وقد تبدّى ذلك في قربه من نظام حسني مبارك، بحيث كان أول شاعر عامية يحصل على جائزة الدولة التقديرية، ليجبر مصر الدولة على الاعتراف بالشعر العامي الذي طالما اعتبرته خارج منظومتها المعتمدة. وكان هو آخر الشعراء والمثقفين الذين حصلوا على جائزة مبارك للآداب قبل سقوط نظامه بشهور، لذا رفض الكثيرون أن يعلن الأبنودي انضمامه إلى ثورة يناير وكتابته قصيدة الميدان التي قال فيها: «آن الأوان ترحلي يا دولة العواجيز»، معتبرين ذلك انتقالاً سريعاً من نظام تهاوى إلى نظام يبحث عن الوجود. لكن ذلك لم يقلل في يوم من أهمية الأبنودي كأحد أضلاع مربع الشعر العامي في مصر، هذا المربع الذي بدأ ببيرم التونسي، ثم صلاح جاهين وفؤاد حداد، ليصبح الأبنودي بما حققه من شهرة وانتشار واسعين في العالم العربي آخر الشعراء الكبار، بل أصبح ظاهرة في شعر العامية، هو الذي تميّز بنبرة صوته التي أحبّها الناس بشجنها حتى سعى الكثيرون إلى تقليدها في طريقة إلقاء الشعر. لقد ساهم الأبنودي خلال رحلة شعرية طويلة في التأثير على جيل من الشعراء المصريين، ولم يسهل على بعضهم الخروج من عباءة الأبنودي، فكان مصيرهم الفشل بعد فترة من التقليد. بساطة التعبير تكمن عبقرية الأبنودي في بساطة قصيدته ومفرداتها وعفويتها، وفي اعتمادها المبكر على سرد التفاصيل، إضافة إلى كونه وريث شعراء الربابة العظام في مقاهي الحواري المصرية، فالأبنودي لم يكن منشغلاً بصياغات الحكم، ولا نقل العامية من لغة العوام إلى لغة النخب، فقد أصرّ على التعبير عن الجماعة التي ينتمي إليها بمفرداتها وخيالها وأحزانها ومعاناتها اليومية، ففي قصيدة «كباية شاي» التي كتبها عام 67 -بعيد النكسة- قال: «مرت عربية جديدة وفيها ناس وشها ساكت خالص/ وولد بيكلم بنت على التلتوار/ بالحس الواطي/ وخايف خالص/ وعلى التلتوار التاني كان دكان فكهاني منظم خالص/ ونيونه مشعلل أنوار خالص خالص/ وقعت سنجة تروماي خمسة/ طلع الولد المتشعبط ركبها/ وركب من باب التروماي قدام الكومساري/ شافه ما كلمهوش خالص/ عدى الراجل اللي ما نزلشي من ع العجلة بقى له ست سنين/ كان تعبان جداً/ وموطي/ ومش بيبدل خالص/ أخذ الغرسون قرشين بقشيش/ بص لي جداً... جداً/ واستغرب خالص خالص». رمز ثورة «يوليو» خاض الأبنودي معارك كثيرة وشهيرة، وانتصر في أغلبها على خصومه، ربما لقربه من الدولة، أو بفضل شخصيته التي اكتسبت من الصلابة ما يؤهلها للوقوف والصبر والمثابرة بنَفَسٍ طويل في مثل هذه الحروب. والمعلوم أن علاقته بعبد الحليم حافظ صنعت له نوعاً من المجد الذي ساعده على تخطي العقبات وتهوين الصعاب، فكان هو علامة من علامات ثورة يوليو (تموز)، بحيث كتب لها العديد من الأغنيات التي اشتهر بها عبد الحليم، ومن أبرزها أغنية «عدّى النهار» التي كانت أولى الأغنيات التي هوّنت على الناس وقع النكسة في 67، وكان عبد الناصر يرغب في سماعها دائماً، حتى أنه كان يطلب من مسؤولي الإذاعة إعادة بثّها في شكل مستمر، مما أوصل الأبنودي إلى عالم الأضواء مبكراً، ليرتبط اسمه بالسلطة، على نقيض أمل دنقل، الذي جاء من الجنوب أيضاً، لكنه كان رمزاً للمعارضة والرفض. من هنا، رأى كثيرون أن مباركة الأبنودي لثورة 25 يناير هي بمثابة انتقال من مركب غارق إلى مركب موشك على النجاة. وبلغ الأمر أن بعضهم طالب الأبنودي بعدم ظهوره على الشاشة، وهو ما يذكرنا بما حدث مع أم كلثوم في الإذاعة المصرية، حين أوقفت بث أغنياتها بحجة أنها من العصر البائد، وحين علم عبد الناصر بذلك ردّ مبتسماً: « إذن فلنهدم الهرم لأنه من العصر البائد». قدّم الأبنودي للمكتبة المصرية والعربية ما يزيد على عشرين مجموعة شعرية من بينها «الأرض والعيال»، «الزحمة»، «عماليات»، «جوابات حراجي القط»، «الفصول»، «أحمد سماعين»، «أنا والناس»، «بعد التحية والسلام»، «وجوه على الشط»، «صمت الجرس»، «المشروع والممنوع»، «المد والجزر»، «الأحزان العادية»... وقدم الأبنودي كتاباً نثرياً بعنوان «أيامنا الحلوة»، نشر فيه مقالاته في الأهرام. وقام أيضاً بجمع السيرة الهلالية كما يرويها رواتها في صعيد مصر وشمالها وكما ترويها بلدان أخرى، كتونس، التي جرى جزء من وقائع السيرة على أرضها، ونشرها كاملة في أربعة مجلدات. وقد سجل حلقات منها في برنامج إذاعي بصحبة أشهر رواتها جابر أبو حسين. ورفض الأبنودي أن تتضمن مجموعاته الشعرية أياً من قصائده الغنائية التي كتبها لعبد الحليم وصباح وشادية ونجاة ووردة و غيرهم... وفي رصيد الأبنودي أغنيات أهم المسلسلات والأفلام، فضلاً عن حوار عدد من الأفلام التي دارت في أجواء الصعيد، من بينها فيلم شيء من الخوف المأخوذ عن رواية ثروت أباظة، والطوق والأسورة المأخوذ عن قصة ليحي الطاهر عبد الله. في المعتقل ما لا يعرفه كثيرون أن الأبنودي، على رغم قربه وافتتانه وتأييده لنظام عبد الناصر، تمّ اعتقاله لمدة أسابيع عام 1966 بتهمة الانتماء لخلية شيوعية، ولم يتم الإفراج عنه إلا بعد وساطة صلاح جاهين. أما العلاقة بينه وبين السادات فلم تكن في أفضل أحوالها. ومع أنّ السادات أحضره من لندن، المدينة التي عاش فيها لمدة ثلاث سنوات، وفكر في توليته وزارة الثقافة، لم يكن الأبنودي ميالاً إلى السادات، بل عارض اتفاق كامب ديفيد، ورسّخ موقفه في ديوانه الشهير «المشروع والممنوع». ولكن يبدو أن طاقته على الاعتراض والاختلاف لم تعد في السنوات الأخيرة كسابق عهدها، فاستراح إلى العلاقة الطيبة التي سعى نظام مبارك لإبرازها تجاهه. وفي رحيل الأبنودي يصحّ أن نقوله ما سبق أن كتبه أمل دنقل في يحيى الطاهر عبد الله: «ليت أسماء تعرف أن أباها صعد/ لم يمت/ هل يموت الذي كان يحيا/ كأن الحياة أبد». ويمكننا أيضاً أن نرثيه بما رثى به فؤاد حداد «أنت الإمام الكبير وأصلنا الجامع/ وأنت اللي نقبل نصلي وراك في الجامع»، أو ما قاله في بابلو نيرودا «منطق الشعرا غريب/ واللي أغرب منه/ منطق المدن». ولكن تبقى كلماته في رثاء صديقه في عبد الحليم حافظ أكثر تعبيراً عن حالنا الآن: «فينك يا عبد الحليم، كتبت سطرين بس كنت حزين، أدّي ورقتي لمين، فينك نغنّي تاني موال النهار، يا صاحب الرحلة ف طريق الشوك، أنت ممُتّش.. هما شِبْعوا موت».