لا يقلّ الاهتمام الذي يلقاه الشاعر الراحل أمل دنقل في الحياة الثقافية المصرية اليوم عن الاهتمام الذي يلقاه الشاعر الراحل صلاح عبدالصبور أو أي شاعر مصري آخر سواء من الراحلين أو الذين ما زالوا على قيد الحياة. فمن يتابع ما يُنشر عنه في الصحافة المصرية، أو في عالم النشر، يجد أن أمل دنقل ما زال شاعراً قيد التداول، إن جاز التعبير. فما أن ينتهي الحديث عنه حتى يتجدد. وما أن يظن المراقب أن الدراسات حول شعره قد استنفدت، حتى تبدأ دراسات أخرى حوله تتناوله من نواح مختلفة. وكل هذا يدلّ على حيوية في أعماله الشعرية. وهو ما لم يحصل مع سواه من الشعراء. ويبدو أن مما يهب أمل دنقل البقاء بعد مرور سبعة وعشرين عاماً على رحيله، هو أنه لم يكن بعيداً عن هموم الناس وتطلعاتهم. فقصائده واكبت الأحداث السياسية العاصفة التي عرفها عصره، ولم تكن مجرد قصائد رومانسية حالمة من نوع شعر علي محمود طه أو إبراهيم ناجي، بل نقلت مشاعر الناس نقلاً أميناً بحيث كان الشاعر من أكثر الشعراء تمثيلاً لهؤلاء الناس ولعصره في آن. وقد جاءت احتفالية مكتبة الاسكندرية بمرور سبعين عاماً على ولادة أمل دنقل، مناسبة لتكريس هذا الشاعر في الوجدان المصري، وإعطائه «تأشيرة» رسمية تدلّ على الاعتراف العام به كواحد من أكبر شعراء مصر والعرب في القرن العشرين. في هذه الاحتفالية تحدث شعراء ونقاد كبار عنه، وتلا فنانون كبار بعضاً من شعره. ولعل أفضل ما تمخضت عنه هذه الاحتفالية فيلم وثائقي عنه حمل عنوان «أوراق الغرفة 8» سجلته المخرجة عطيات الأبنودي أثناء علاج الشاعر قبل رحيله عام 1983م، وفي غرفته رقم 8 بمستشفى الأورام بالقاهرة. فهذا الفيلم هو الوثيقة الوحيدة المصورة عن صاحب «أقوال جديدة في حرب البسوس». صحيح أن الشاعر فاروق شوشة كان صوّر للتلفزيون المصري جلسة معه في برنامج «أمسية ثقافية»، إلا أن هذه الجلسة اختفت فيما بعد ليبقى فيلم عطيات الأبنودي هو الوثيقة الحية الوحيدة التي يظهر فيها الشاعر راقداً في غرفته يتحدث عن سيرته وتجربته وعن آرائه في قضايا أدبية وفنية وثقافية مختلفة. تقول عطيات الأبنودي أنها ذُعرت عندما علمت أن يحيى الطاهر عبدالله، وهو قاص وصديق حميم لأمل، قد مات دون أن يترك أي شريط مسجل عنه فخافت أن يلقى أمل المصير ذاته. ولأنها تعمل مخرجة، وكان أمل صديقاً لها وفي الوقت ذاته يرقد في المستشفى وسيموت بعد وقت يسير، فقد أحبت أن تسجيل فيلم عنه. أقنعته بأهمية التصوير، وبأن هذا الفيلم هو وثيقة للأجيال الآتية ولمؤرخين ونقاد سيبحثون في سيرته وحياته. اقتنع أمل فتحدث لأكثر من ساعتين عن الحياة والموت والأصدقاء والشعر والحب. بقي الفلم في العلب أكثر من عشر سنوات. وعندما وضعت الأبنودي لمسات المونتاج الأخيرة عليه، اختارت من التسجيلات الطويلة مع الشاعر نصف ساعة فقط تضمنها هذا الفيلم الوثائقي. تحدث أمل دنقل في هذه الوثيقة النادرة عن سبب اختياره للكتابة. قال إنه لم يكن يملك خيارات أخرى. لا يمكن أن أعبّر بالموسيقى أو الرقص. أما الكلمة فلها في المجتمعات المحافظة قيمة كبيرة تصل إلى دور سحري. في الميثولوجيا الشعبية، الكلمة قد تحيي وتميت، بل إن لها قوتها الذاتية المنفصلة عن الإنسان كمثال الأحجية أو قراءة القرآن على المريض. كان الشعر خياراً ذاتياً كما قال، ارتبطت نبرته ببيئة طولته وشبابه، «في مجتمع محبوس بين جيلين، حيث التضاد واضح جداً بين السهل والجبل، وعنف المناخ والحدة، والالتقاط السريع للأشياء، حيث لا شيء له صفة الديمومة، ولا يملك الفرد ما يكفي من الصبر لكتابة الرواية». وأضاف: «ارتبط انتقالي إلى القاهرة بتغيّر في نوعية الشعر. من الشاعر الرومانسي الحالم الذي يذوب وجداً ويكتب عن فتاة تمشي بخطوات موسيقية، وعن مشهد الغروب والنيل، تحولت شاعراً يربط الكتابة بقضايا المجتمع. نفسياً بدأت أخرج من دائرة الاهتمام بذاتي إلى مزج الذات بالعالم». بعد ذلك يترك أمل دنقل القاهرة عائداً إلى الصعيد بعد سلسلة إخفاقات، لكنه عاد إلى القاهرة من جديد: «عند المحاولة الثانوية قررت أنا وزميلي عبدالرحمن الأبنودي أن نأتي إلى القاهرة كغزاة! كان الأبنودي يكتب بالعامية وأنا بالفصحى. جئنا ومعنا أفكارنا الخاصة عن العالم. في المرة السابقة كنا نريد أن ندخل في النسيج الموجود. أما في المرة الثانية، فجئنا بخيول جديدة ونحن على استعداد لفتح المدينة. كنا قادمين بلغة جديدة لا لنأخذ المباركة عن رواد الأدب والكتّاب القاهريين، بل جئنا لنقول، وعلى العالم كله أن يسمعنا»! وتحدث «الجنوبي» في الفيلم عن المقاهي والأصدقاء والموت والحياة وعن قدرته على التنبؤ بما حل من نكسات فيما بعد. قبل عام 1967م، كان كثيرون يرون مصر دولة عظيمة، كما يرون دخان المصانع أجمل ما يغطي السماء. لكنني كنت أرى عكس ذلك. كنت أكتب شعراً لا أستطيع نشره حينها. وعندما استطعت نشره، إعتقد بعضهم أني كتبته بعد الهزيمة!. وكما كتب الشعر الفصيح، كتب ثلاثة نصوص شعرية بالعامية المصرية للمغنية عفاف راضي، منها قصيدة عاطفية تقول بعض كلماتها: ولد وبنت سمرا/ ماشيين تحت الشجر/ وشبكة أيدين ونظرة/ وخطوة على القمر/ ووردة في غصن بكرة/ مشتاقة للمطر/ فضل الطريق يضيق/ على الحلم البريء/ وأدي الطريق طريق/ خالي من كل شيء/ غير اسمين على الشجر/ ودمعتين عقيق! ويبدو أن الشعر هو الذي يبقى في النهاية لا أي شيء آخر. روى أحد أصدقاء أمل أنه ذهب يوماً مع آخرين إلى وزير الثقافة المصري يومها عبدالحميد رضوان لكي يصدر الوزير قراراً بإيفاد أمل دنقل للعلاج في الخارج على نفقة الدولة، فسألهم الوزير: ومن يكون أمل دنقل؟ وها هو أمل دنقل يدخل الحياة الثقافية والأدبية المصرية والعربية كما يدخل الفاتحون، في حين يتوارى عبدالحميد رضوان في الظلام ويتحول نسياً منسياً!