رغم اختلاف «ربيع» فريد الأطرش عن «الربيع العربي» شكلاً وموضوعاً، ورغم اتساق الرياح العاتية وموجات السيول الضاربة والأجواء السياسية الملبدة بغيوم الانحباس الانتخابي البرلماني وتلك التي تسيطر عليها هواجس انفجارات الداخل من عبوات بدائية الصنع أو ترقبات مشاركات الخارج حيث «عاصفة الحزم» وزوابع تحلل الخريطة العربية مع غصة في الصدر، إلا أن المصريين ماضون قدماً إلى «شم النسيم» كما لم يشموه من قبل. وقبل أن تغلق المحال أبوابها وتعلق البنوك أعمالها، كانت الملايين قد أخذت عدتها واتخذت حيطتها وأمّنت أنفسها، وابتاعت ما خف حمله وغلا ثمنه من صنوف الفسيخ والملوحة والرنجة لزوم الاحتفال بعيد شم النسيم، وهو العيد المصري الفرعوني الصامد منذ آلاف السنين في وجه التحريمات الدينية والتضييقات الاقتصادية والمشاكل الأمنية والتحرشات الجنسية والأزمات السياسية والتحذيرات الطبية. ليس هذا فقط، بل نجح المصريون بما يملكونه من قدرة على الإبهار ونزعة إلى الإتيان بتصرفات عكس تلك المتوقعة اجتماعياً، في تحويل كل ما سبق من تعقيدات وتأزيمات إلى جزء لا يتجزأ من الاحتفال بعيد شم النسيم. عبارة «لا يجوز الاحتفال بشم النسيم» هي الاستهلال الكلاسيكي الذي بات معروفاً لدى عموم المصريين. فبين «الاحتفال بشم النسيم حرام شرعاً» و»التشبه بالكفار محرم تماماً» لم تعد الغالبية تلتفت كثيراً إلى ما يرد من الجبهات المتطرفة أو يصدر عن الأصوات المتشددة التي أضافت هذا العام وصف «إمعة» إلى من «يتبع كل ناعق» مع تحريم فسيخ القدماء وتكريه بصل الأولين ونهي عن بيض الدجاج ما تلون منه بألوان الربيع وما احتفظ بقوام الطبيعة. ورغم مظاهر الطبيعة الغاضبة هذا العام من عودة مباغتة للشتاء وسقوط فجائي للأمطار وغياب جزئي للشمس، إلا أن المؤشرات تؤكد أن النية الشعبية انعقدت على تحدي الكوارث بأنواعها، سواء الطبيعية أو تلك التي من صنع الإنسان، والمضي قدماً في الخروج إلى الشوارع والحدائق والكورنيش رغم أنف التفجيرات، والتسلح بالأسماك المملحة ما صلح منها وما فسد رغم أنف التحذيرات والطوارئ والإسعاف، ونزع رداء التحليل السياسي وخلع لباس التكتيك الإستراتيجي موقتاً، إجلالاً وتبجيلاً للعيد الأقدم والمناسبة الأعرق التي لا تفرق بين مصري مسلم - باستثناء «الإخوان» والسلفيين - ومصري مسيحي من دون استثناءات. المستثنون من عطلة «شم النسيم» الرسمية هم المسؤولون عن الصحة لزوم إنقاذ ضحايا التسمم الغذائي، والموكل إليهم نقل الأخبار لا سيما صور الجموع الغفيرة في الحدائق الشحيحة والحشود الهادرة على الشواطئ الجاهزة وهو ما يعني بالضرورة بضع وقائع تحرش هنا ومجموعة حوادث سير هناك وما يمكن فرقعته من عبوات بدائية الصنع أو زرعه من متفجرات سريعة الاشتعال، إضافة بالطبع إلى القائمين على الأمن والتأمين. تأمين المنشآت الحيوية وتعزيز القوات الأمنية وتفعيل التدخلات السريعة حولت جانباً من الجوانب الاحتفالية لشم النسيم لتصبح مرتبطة في أذهان الصغار منذ اندلاع الثورة وتوابعها على مدار السنوات الأربع الماضية بشكل الجندي المدجج بالسلاح والضابط المستنفر هنا وهناك. الأجواء الاستنفارية المتصاعدة في شم النسيم، وهو عيد الربيع الذي يوافق اليوم التالي على أعياد المسيحيين الشرقيين، أبت أن تدع المحتفلين المقررين نبذ السياسة يوماً أو يومين يستمتعون بقرارهم أو يهنأون بأسماكهم. فأحكام الإعدام والمؤبد الصادرة أول من أمس على مجموعة من «الإخوان» دعت «التحالف الوطني لدعم الشرعية ورفض الانقلاب» إلى الدعوة إلى «زلزلة أركان الانقلاب» في ضوء «تصاعد الغضب الشعبي» وتأكيد أن الأمن لن ينجح في «قمع الصمود الأسطوري في وجه الثوار». إلا أن الصمود الأسطوري الوحيد المتوقع اليوم هو الصمود في وجه ملايين الأطنان من الفسيخ والرنجة، وتلال الحزم الخضراء من البصل وما تيسر من مياه غازية لزوم الهضم وراحة المعدة. راحة المصريين يوم شم النسيم ليست أبدية، بل موقتة، إذ سيعودون صباح الثلثاء إلى إيقاعهم الحياتي السريع، وإغراقهم السياسي العميق، وصراعهم اليومي من أجل البقاء رغم غلاء الأسعار، وسبات البرلمان، وثبات المشكلات، وتهديدات «الإخوان»، وتحريمات المتشددين، وسيولة المسؤولين، وسبوبة الإعلاميين، وتحلل الدول من أقرب الأقربين، وتخزين ما تبقى من فسيخ وسردين إلى عام مقبل.