كثيراً ما كان يأخذني السؤال عن جدوى الكتابة إلى أماكن لم يكن من السهل الرجوع منها، إن تلك المساحة البيضاء التي نذهب إليها عادة بمخيلةٍ حرة، تفاجئنا دائماً بألوانٍ جديدة نتفحصها بدهشة الكائن الأول، لست أدري متى تبدأ الكتابة ومتى تنتهي! ما الذي يجعلنا نسلم أنفسنا هكذا وبكل بساطة لهذا البياض؟ ثم لماذا الكتابة فقط؟ هكذا بدأت الأسئلة تطرق باب عقلي عندما شرعت بقراءة كتاب القاص والإعلامي علي زعلة «أحلام يناير.. خيبات ديسمبر»، والذي كان عبارة عن مجموعة مقالات كتبها في الصحف السعودية، حاول زعلة في كتابه أن يُنزل الكتابة من عليائها وأن يجعلها سهلة وسائغةً للجميع، إنها نوع من الكتابة التي لا تتوقف ولا تملك محطات لتفعل هذا، فهي إذ تجلس قليلاً في «تويتر»، لا تنسى أن تتمشى في بقية أزقة المواقع الاجتماعية، وتذهب للبقالة وترتاد الأسواق، والأماكن الاجتماعية ولا تنسى حصتها من المعرفة أيضاً، هذا النوع من الكتابة يكون في ظاهره سهلاً وممكناً لأيٍّ كان أن يجرب حظه فيها، ولكن الظاهر ليس كالباطن، فهي ليست النزول إلى الأسفل ولا الصعود إلى درجة التلاشي، إنها محاولة للوقوف في منطقة «البين.. بين» محاولة للتحلّي بحياد الماء، يقول زعلة عن الكتابة: «نكتب؟ لتنزاح الغيوم عن الأفق، ليحتكّ القلب بما فيه، لنخلّد زهرة ونفاوض الغبار بالمطر. نكتب؟ لنركب موجةً هائجة... متحررة ومغرية ومكتظة بالحياة، نصل معها إلى أعلى مستوى عن سطح البحر، وكي نتعلّم كيف نقفز عن هذه الموجة - عندما تلفظ أنفاسها وينكسر صعودها - إلى أخرى في الوقت المناسب وبالقدم الأنسب... نكتب»! هكذا هي الكتابة إذن؟ إنها مرآة حقيقية للحياة بكل تقلباتها وبكل علاتها. إحدى الأشياء التي كنت ألاحظها أثناء قراءتي للكتاب، هي كيف يمكن لنا أن نصف تلك اللحظات الحميمة والخاصة جداً بنا، والتي قد تستعصي في كثيرٍ من الأحايين على التعبير، في مقابل كتابتنا عن اليومي الرخيص والقابل للتكرار؟ ثم ماذا تعني هذه التصنيفات والتقسيمات التي قد تتفاوت من شخص لآخر لحظات مختلفة من الحياة؟ إن أية كتابة صادقة أو يزعم صاحبها أنه جاد فيها، يجب أن تكون على القدر نفسه والمستوى ذاته من الجدية في التعبير عنها، فتعبيرنا عمن نحب، وعما نحب يجب أن يكون موازياً لتعبيرنا عما نشعر به تجاه بقية المتغيرات من حولنا، هذا إذا افترضنا وصدقنا أن الكتابة مرآة لحياتنا، هذا الدرس القاسي قدمه زعلة بشكل ضمني في كتابه، وهو درس لكل من يحاول أن يجد في الكتابة خلاصه، فلا قيمة لكتابة تتلوى لهديل حمامة، ولا يرف لها طرف لزلزال يهزّ أركانها! كانت رحلة ممتعة تلك التي خضتها برفقة الأحلام والأمنيات التي أوردها زعلة في كتابه، وكم كانت صادقة تلك الخيبات التي عبر عنها. **** يرى راسل إدسن أن المساحة البيضاء هي وطنه. يرى صلاح عبد الصبور أنه في حاجة إلى الكتابة كي يتطهر. يرى أنطونين آرتو الكتابة ضرباً من الصلاة. يرى قاسم حداد بأن الكتابة «خندق قبل القبر». * شاعر وكاتب يمني.